-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

آخر المعارك وبدايات التحولات الاستراتيجية

صالح عوض
  • 1888
  • 0
آخر المعارك وبدايات التحولات الاستراتيجية

في فلسطين وصفقة القرن.. في سورية وحروب الارهاب.. وفي العراق وحروب الفتنة والطائفية.. وفي ليبيا والصومال والسودان حروب التجزئة.. وفي كل مكان من وطننا العربي حربٌ من نوع خاص بالمكان لكنها حروب في أخر جولاتها.

في محاولة لتدبُّر حركة قوانين الانهيار وسنن الظهور والانتشار في أتون المعارك الدائرة في بلاد العرب والمسلمين تقفز إلى عقولنا حقيقة أن هذه المعارك هي الفصل الأخير من الصدام الحضاري بيننا والغرب بتلك الصيغة التي فرضها الغرب الاستعماري علينا في المراحل السابقة.. وأن هناك نمطا مختلفا تمام الاختلاف سيكون عليه الصدام بيننا والغرب في العقود القادمة.

لقد ألقى الغرب الاستعماري بثقله في معركة أرادها أن تُنهي احتمالات نهوضنا الحضاري وبحث بدقة وعلمية عن كل عناصر قوتنا المادية والمعنوية وعمد لتحطيمها أو تشويهها أو إهدارها، وتمكن في كثير من الأحيان من تحقيق أهدافه الجزئية لكثير من الوقت، إلا أنه باستمرار كان يعاني من أزمة خطيرة تلك المتمثلة في القيم الروحية التي تكتنزها الأمة والمرتبطة مع مقدساتها وتاريخها والمشكِّلة جملة دوافع حيوية للضمير الجمعي والوجدان الجمعي.. ومن هنا كانت المؤسسات الاعلامية والثقافية الاستعمارية مرتبطة ارتباطا عضويا بالأجهزة الأمنية والتوجُّهات الاستراتيجية للمشروع الاستعماري الغربي.. فلقد تحوَّلت الأخبار وصياغتها والأفلام وصناعتها وحتى كثير من أنماط الصناعة الاستهلاكية الموجهة إلينا إلى أدوات في الحرب علينا لتكسير مسلماتنا الثقافية، وكان الأمر لديهم واضحا وبلا مواربة، فهاهم في كل مكان يحتلون يعمدون إلى حرق مكتباتنا وسرقة آثارنا أو تحطيمها، وقد شغَّلوا في هذه المهمة مرتزقة لهم يقومون بجريمتهم تحت أغطية من شعارات دينية مشوهة.

لقد كانت صواريخ الغرب وقنابله هي الأدوات الأكثر وضوحا، ولكن ليست الأكثر فعالية في تشكيل الواقع الحالي التي تعيشه الأمة، حيث كان للاختراق الثقافي والسياسي والأمني الدور الأكثر فاعلية فيما نحن عليه، ولقد بذلت الآلة الغربية وسعها في مهمتها الشيطانية تلك.

ولكن الذي لابد من تدبره في نهايات هجمات الغرب الاستعمارية المتوالية وعلى أكثر من صعيد، أن الأمة استوعبت الصدمات وامتصتها وقذفت شرها جانبا وتحصنت بمضادات حيوية ازدادت مناعتها بفعل الضربات المتوالية.. ولعلنا هنا نقول بوضوح إن الأمة لم تتبخر ولن تنزوي من مسرح الحياة، وهي التي لم تنته بفعل تلك الموجات العدوانية المتنوعة عبر قرنين من الزمان، وخرجت من كل المعارك منتصرة، وكان أعظم انتصار لها في الجزائر والعراق، حيث كسرت سطوة الامبراطورية الفرنسية والامبراطورية الأمريكية ومن ورائهما الحلف الأطلسي..

يجب ملاحظة ذلك بدقة وتدبره بتمعن والثبات على الوعي به، فيما نحن نراقب التطورات الحاصلة على ميزان القوى العالمي وطموحات كل دولة قطبية كروسيا والصين والهند وتطور الروابط الاقتصادية في العالم كما هو حاصلٌ في منظمات اقتصادية وازنة.. كما يجب ملاحظة أي حال وصلت إليه أوربا القارة العجوز التي فقدت خلال نهضتها العلمية قيمها الروحية، وهاهي سطوتها الاقتصادية والصناعية تضمحل وتصبح كثير من دولها في مصاف الدول المرهقة بشيخوختها ومهددة في كل عناصر وجودها الانساني.. أما الدولة الأعظم في العالم الولايات المتحدة الأمريكية، فبرغم أنها لاتزال تمتلك قوة نيران مذهلة وآلات قتل وبطش جنونية واقتصاد يزيّنه الإعلام وأفلام الهوليود على أنه الأضخم، ورغم كل ما وصلت إليه علوم المعلومات وما تدره من أموال طائلة على شركات متطورة في كيفية كسب الأموال.. رغم ذلك كله فإن المجتمع الأمريكي يكتنز خرابه ولم تستطع الامبريالية الأمريكية الجبارة خارجيا أن تحل مشكلة الجريمة والعنصرية والتأمين الصحي داخليا.. وهاهي تدفع من جيوب مواطنيها آلاف مليارات الدولارات في معارك يغلب عليها الاستعراض، وكان بالإمكان تجنُّبها والحصول على فوائد أوسع وأهم..

“في فلسطين وصفقة القرن.. في سورية وحروب الارهاب.. وفي العراق وحروب الفتنة والطائفية.. وفي ليبيا والصومال والسودان حروب التجزئة.. وفي كل مكان من وطننا العربي حربٌ من نوع خاص بالمكان لكنها حروب في أخر جولاتها.”

إن مراجعة علمية تحليلية للاستراتيجية الأمريكية حول العالم في ظل تنامي الأقطاب الدولية: الصين وروسيا وكوريا الشمالية، وتنامي قوى إقليمية في العالم الاسلامي كباكستان وتركيا وإيران وخسارات المشروع الأمريكي في العراق وسورية وسواهما، كل ذلك يعني بوضوح أننا نقفل مرحلة من الصراع لها سماتها وعناصرها وطبيعة المواجهات فيها لنفتتح مرحلة جديدة تماما، رغم كل ما تحاوله القوى الاستعمارية الغربية من تشبُّث بالمرحلة السابقة من خلال مشاريعهم الاستعمارية المتجددة كمشروع الشرق الأوسط الجديد أو مشروع الفوضى الخلاقة أو محاولة إغلاق ملف فلسطين والقدس في هجمة إعلامية كاسحة يُراد منها رفع معنويات المشروع الاستعماري الصهيوني المتردية.

في ملاحظة الخطوط الاستراتيجية للمشروع الاستعماري الغربي نلاحظ تراجعات عميقة حصلت عليه وأنه سوف يستسلم للضغوط المتزايدة من نهوض القوى الدولية الأخرى.. كما أنه لابد من ملاحظة ما يجري في الكيان الصهيوني من تضعضع الروح المعنوية في مواجهة تهديدات قد تكون خطيرة بنسبة ما تأتيهم من الشمال أو تهديدات أمنية قائمة تنفجر في وجوههم من قبل أهل فلسطين في الضفة وغزة والعمق الفلسطيني.. إن ملاحظة ما عليه سكان التجمع الصهيوني من أرق وقلق وجودي، حيث تعود من جديد الأسئلة نفسها ويتم البحث بجدِّية عن حلفاء حقيقيين في المنطقة وفي العالم، بعد أن اكتشفوا أن الادارة الأمريكية من غير المضمون استمرار قوتها وهيمنتها على القرار في المنطقة.. وهكذا يبدي قادة التجمع الصهيوني حرصا بالغا على إيجاد تحالفات مع بعض الدول العربية كما لايترددون في نقل الاهتمام بالعلاقة مع روسيا الخصم الاستراتيجي للأمريكان.

على صعيد جبهاتنا فرغم أن الفوضى لاتزال سمة واضحة في أدائنا، ورغم أن اللامبالاة أصبحت سلوكنا في مواجهة الأخطار إلا أن المواجهات أثبت أن لنا قدرات خيالية لمقارعة الظلم، ولنا فنون قادرة على إنزال الهزيمة به وبترساناته المسلحة.. وأن تراكم هذه الانتصارات يولد لدينا مزيدا من الاعتزاز ويمنحنا مناخا صحيا لتولد أفكار النهضة والتقدم.

بالتأكيد نحن الآن بصدد أفكار نهضوية متحررة من الخرافة والتعصبات الجاهلية الطائفية البغيضة والعرقية العنصرية.. نحن بصدد أفكار حضارية في حجم أمتنا ورسالتها تجد فرصتها الآن في مناخات الانتصارات الكبيرة على المشروع الاستعماري الأمريكي الذي أراد لنا المصير نفسه الذي مر به الهنود الحمر.. نحن بصدد الارتقاء إلى أداءات في مستوى طموح أمتنا بعد أن اكتشف الجميع أن الغرب الرأسمالي  لايعرف المحايدة ولا الانسانية إنما هو فقط الربح ثم الربح الذي يدفعه إلى تحطيم الشعوب وثقافاتهم.

إن لمن الواضح تماما أن همَّ الناس والمثقفين الرساليين والمفكرين الحضاريين في أمتنا يسير في واد مختلف عن ذلك الذي يسير فيه اهتمام النظام السياسي العربي.. ولكن من يعتقد أن 350 مليون نسمة في المنطقة العربية يمكن تسييرهم بالتوجيه التلقائي عن بُعد، فإنه في حقيقة الأمر يكون خارج الوعي بتطوُّرات عميقة حصلت على وعي الأجيال وإدراكها..

شباب الأمة وأجيالها الناشئة ستعيش حتما مراحل صعودنا الحضاري وانتصاراتنا الكبيرة، وهي ستعرف بدقة كيف وأين تضع خطواتها؛ فالفرصة التاريخية تلوح في الأفق وليس على هذه الأجيال إلا النهوض بالواجب.. تولانا الله برحمته.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!