أثر الجوائز الأدبية في تشكيل ذائقة القراء: هل صارت اللغة ضحية التسويق؟

لم يعد مستغربًا أن تفوز أعمال أدبية بجوائز مرموقة رغم لغتها البسيطة، بل وحتى وقوعها في أخطاء لغوية قد توصف بـ”الكارثية”. وهو الأمر الذي يستدعي طرح تساؤلات جادة بشأن المعايير المعتمدة في تقييم الأعمال، ومدى أهمية السلامة اللغوية في الجوائز الأدبية بالجزائر والوطن العربي. فهل صار الإبداع الفني ذريعة للتساهل اللغوي؟
تتكرر هذه المفارقة في مختلف الجوائز، حيث يبدو أن بعض لجان التحكيم تفضل قوة السرد وجدة الفكرة على الدقة اللغوية؛ فمنهم من يرى أن الأدب لا يقيم بالنحو والصرف، بل بقدرته على استمالة القارئ والتأثير فيه، ومنهم من يرى أن اللغة هي الجوهر، وأن إهمالها يعني التنازل عن أهم عناصر الإبداع.
لكن ماذا عن الجوائز في العالم الناطق بالإنكليزية أو الإسبانية مثلًا؟ هل نجد تساهلًا مماثلًا؟ الحقيقة أن معايير التدقيق اللغوي حاضرة بصرامة في هاتين اللغتين. في الإنكليزية مثلًا، يمكن لبعض الأساليب التجريبية أن تخالف القواعد عمدًا، لكنها مخالفة واعية، وليست على حساب سلامة اللغة..!
ويشهد التاريخ أن كبار الأدباء لم يستهوهم التهاون باللغة، بل كانت نصوصهم تمر بمراجعات صارمة. ولنا في “نجيب محفوظ” أو “الطاهر وطار” مثال عن القدرة المذهلة على ضبط اللغة والحرص على سلامتها. أما خارج لغتنا، فقد عرف “جورج أورويل” بوضوح لغته وصرامته التحريرية، بينما كان “تشارلز ديكنز” يراجع نصوصه بحرص شديد قبل النشر. وقد اعتاد “دان براون” على الاستيقاظ فجرًا ليُراجع أعماله، ولو استدعى نصه ذكر المسافة بين منزله ومدرسة الحي التي يدرس فيها أحد أبنائه لأرسل محررًا ليقيسها بدقة؛ من أجل أن يكون نصه حقيقيًا وواقعيًا..! في حين أن “فرجينيا وولف” -التي كان يستحوذها تيار الوعي- لم تكن تنشر قبل تحرير دقيق وحريص لما تكتب.
ومن هذا المنطلق، هل نحن بحاجة إلى إعادة تعريف “الأدب الجيد” في جوائزنا العربية؟ وهل يمكن عدُّ عمل مليء بالأخطاء نصًا يستحق التكريم؟ أم أن الإبداع الفني وحده كافٍ؟
لا يختلف اثنان على أن الأدب فن متكامل، والتميز فيه لا يقتصر على الفكرة أو السرد، بل لا بد أن يشمل اللغة بوصفها أداة رئيسة. ولا بأس أن نتسامح مع بعض التجاوزات الأسلوبية إذا كانت مقصودة فنيًا، لكن أن تكون الركاكة قاعدة والتدقيق استثناء، فهنا مكمن الخطر على مستقبل الكتابة العربية.
وربما قد آن الأوان لكي تكون الجوائز الأدبية شاملة في معاييرها، بحيث توازن بين الإبداع واللغة، فتكافئ النصوص التي تحلق عاليًا في سماء الإبداع دون أن تترك وراءها أخطاءً لغوية تتطاير كقصاصات ورق في مهب الريح..!
إقرأ أيضا – عن تأثير الجوائز الأدبية ومعاييرها: حوار مع الباحث محمد داود
وفي الخلاصة أقول: ليست اللغة مجرد وسيلة للتعبير، أو أداة للكتابة، بل هي جوهر الهوية، وسر خلود الأدب عبر العصور. فكيف نقبل اليوم أن تتحول الأعمال المكتوبة إلى نصوص مشوهة؛ فقط لأن الجوائز تتغاضى عن الأخطاء الفادحة؟ وليس التهاون في سلامة اللغة مجرد خطأ عابر، بل هو خطوة نحو تمييع العربية وإفقادها مكانتها الأدبية والفكرية. وإن مسؤولية الحفاظ على اللغة لا تقع على لجان التحكيم وحدها، بل هي مسؤولية جماعية تشمل الكتّاب أنفسهم، والقراء الذين يجب أن يطالبوا بنصوص رصينة ودقيقة وسلسة. فكما يحرص الكاتب على حبكة أعماله وأفكارها، عليه أن يحرص أيضًا على الصياغة السليمة التي تحترم القارئ وترتقي بذائقته. أما القراء، فعليهم أن يرفضوا الأعمال التي تستخف بلغتهم، وألا ينبهروا بمجرد “فكرة جيدة” إذا كانت تقدم بلغة ركيكة؛ فالأدب الحقيقي هو الذي يجمع بين الفكرة العميقة والصياغة الأنيقة، وإلا صار مجرد كلام عابر في معرض المنشورات اليومية..!