أربعة أسباب لاستفحال ظاهرة العزوف عن القراءة

مَهمّةٌ جديدة تُلقى على عاتق الكاتب بعدما كانت مهمته الكتابة وإنتاج المعرفة ومن ثم التعليم على أوسع نطاق؛ فبالكتابة يصنع جمهوره القريب والبعيد على حد سواء، ويصبح الكاتب بما أنه مصدرٌ معرفي يؤتى إليه، ولذا شاع في الأدبيات الإسلامية أن العلم يؤتى إليه ولا يأتي، ويترتب على ذلك حرمان من لم يكن أهلا للعلم من العلم، وفي هذا الإطار كتب لنا قديما الإمام أبو حامد الغزالي “المضنون به على غير أهله”. لقد انقلب الأمر وصار الكاتب هو الذي يبحث عن القارئ، وهو المسؤول عن صناعة قُرَّائِهِ، وهذا ما تؤكده حركة الكتابة، ومعارض بيع الكتاب التي تعرف كسادا كبيرا، وكل ذلك يتحمل تبعاته الكاتب، فكيف تتم صناعة القارئ؟
أعتقد أن الإجابة على هذا التساؤل تستدعي تتبع الظاهرة ـ ظاهرة العزوف عن القراءةـ التي تستفحل يوما بعد يوم إلى أن صارت محل اهتمام الإعلام والجامعة والفضاء الاجتماعي الذي يؤكد متخصصوه استفحال هذه الظاهرة، وبهذا التتبع يمكن وضع اليد على العوامل التي تسببت في نشأة هذه الظاهرة، والتي يمكن حصرها في العوامل التالية:
1ـ التعالم:
التعالم هو ادِّعاءُ العلم لا امتلاكه وتحصيله، والتظاهر بمظهر أهله لا الانتماء إليهم حقيقة، واستسهالُ تحصيله من دون جهد وبعيدا عن الكاتب والكتاب. ويتوهم الفردُ المتعالم أنه في مقدوره تحصيل العلم ومناقشة قضاياه دونما قراءة خاصة مع الانتشار الواسع للوسائل الإعلامية، وهذا ما ولَّد الاعتداد بالذات والزعم بأن قراءة الكتاب لم تعُد ضرورية للتحصيل المعرفي.
وقد أفرز هذا التصوُّر المغرور ظواهر سلبية من النواحي الشرعية والتاريخية والاجتماعية العامة مثل: العزوف عن التعلم، وهي ظاهرة استفحلت حتى في الأوساط الجامعية. ومثل نقد المتعلمين والسخرية منهم واستصغار شأنهم، إذ كثيرا ما نجد الفئة الأمية هي التي استولت على الثروة والمناصب، وراحت تنتقد المتعلّمين والمثقفين على أنهم لم ينجحوا اجتماعيا فلم يُكوِّنوا ثروة ولم يعد أحدٌ يستمع إليهم إن تكلموا، وصارت هذه الفئة تردِّد في كل المجالس: ماذا فعل المتعلّمُون؟
من المظاهر أيضا المجادلة بغير علم؛ فالأمية لا تورِّث إلا رد فعل معاديا للمعرفة، ولذلك نجد المتعالمين في سعي دائم لمجادلة المتعلمين.
أما عن أساب هذه الظاهرة السلبية فعديدة ومنها:
الجهل بحقيقة العلم: سواء من الناحية الشرعية أو من الناحية التاريخية والواقعية؛ فمن الناحية الشرعية نجد الأمر القرآني الأول: “اقرأ باسم ربك”، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعيله بالعلم ومن أرادهما معا فعليه بالعلم”، ومن الناحية التاريخية وبالنظر إلى المنجز الإنساني نجد الأمم التي امتلكت العلم هي التي صنعت الظاهرة الاستعمارية، وهي التي تهيمن الآن على العالم.
من الأسباب أيضا تهوينُ شأن المتعلم، فلم يعد هو الفرد المحتفى به، ومن ثم لم يعُد القدوة المرجوَّة.
ومن الأسباب أيضا هيمنة غير المتعلمين تعليما عاليا على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية خاصة، وأدى ذلك إلى حرمان المتعلمين من الوصول إلى مراكز صنع القرار التي يفترض أن يكونوا هم الذين يديرونها حتى تكون الحياة عامة وحياة المسلم حياة عالمة.
وقد ترتّب على التعالم كسلوك سلبي تركُ القراءة ومن ثم تركُ الوسيلة الأولى لطلب العلم، وتبعتها ظواهر أخرى كالتلاعب بالحقوق، فلم تعد دور النشر تحفظ حقوق المؤلف بحجة تراجع المقروئية، بل في الكثير من الأحيان صارت تشترط على الكاتب أن يدفع لها، وهكذا صارت الكتابة عملا يُغرَّم لأجله صاحبُه وكأنه عقوبة من العقوبات بدل أن تكون عملا ينبغي تثمينه كما هو في الأصل!
2ـ اللامبالاة:
اللامبالاة هي عدم الاكتراث بتحصيل العلم أو عدم تحصيله، وعدم الوعي بأهميته وضرورته في حياة الإنسان المسلم، وهي سلوك سلبي ومن منظور أخلاقي هي رذيلة من الرذائل، وعكسها فضيلة الجد كخُلق رفيع.
وتتمظهر اللامبالاة في عدم استحضار القراءة كأولوية في حياتنا، وسيادة سلوك الاستخفاف بكل شيء حتى العلم، ومن ثمّ لم تعد القراءة شيئا ذا بال في يوميات الكثيرين.
أما أسبابُها فكثيرة ومنها ظاهرة اليأس التي اكتسحت حياة الشباب، الأمر الذي أدى إلى الحكم بغموض المستقبل، ومحاربة المثقف وتبجيل غيره، الأمر الذي كرّس صورة مرفوضة للقارئ، كما جعلته يحكم على فعل القراءة بأنه ملهاةٌ ومضيعة للوقت، وترتَّب على ذلك اختلال التوازن، واستفحال الأمية، وبروز حتى ما صار يعرف بـ”أمية المتعلمين”.
3ـ الرقمنة:
الرقمنة في أصلها فضاء خصب ويَسَّر الكثير من الصعوبات، وهي أهم مظهر لثورة الاتصال التي تعدُّ محطة مفصلية في التأريخ للأحداث الاجتماعية والسياسية والتاريخية؛ فما قبلها ليس كما بعدها، لما ترتب من تقريب الثقافة العالمية ومن تجاوز للخصوصيات الثقافية والحضارية ولما أحدثته من تأثير على مستوى الوعي العامّ؛ الأمر الذي جعلها ظاهرة بالمعنى الكامل للكلمة، الظاهرة التي فتح إنسانُ القرن الواحد والعشرين عينيه عليها.
وبالإضافة إلى الكفاءة الترويجية والدعائية لمختلف المواقع، تمكَّنت الرقمنة من سحر واستيعاب الجيل الجديد، ليس في مجال الخبر فقط بل في المجال المعرفي أيضا، ونجم عن ذلك نسيانٌ كلي للكتاب ونجم عنها أيضا سلوكٌ آخر هو الابتعاد عن القراءة، وترك المطالعة ولم يعد جيل القرن الواجد والعشرين يعرف أن خير جليس في الأنام كتاب.
ومن خلال استجواب بعض المهتمين بهذا الشأن وجدتهم أنهم يقضون الساعات الطوال وينغمسون كلية في هذا العمل، ولكن ليس لمطالعة كتاب أو بحثا عن متعة القراءة في صورة جديدة بعيدة عن الكتاب الورقي وغير ذلك، بل رغبة في قتل الوقت، أو تتبُّع التعليقات البسيطة التي لا تفيد معرفيا، ولا شك أن هذه كلها أهداف سلبية، كما أنها ورثت نتائج مذمومة منها المنحى التبريري إذ كثيرا ما نجد المدمنين على الرقمنة يبرّرون ذلك بهيمنة المعلوماتية، وأنهم يكتشفون الحاجة إليها، كما أنها تُيسّرُ الحصول على المعلومة، وذلك سر الابتعاد عن الكتاب، لكن دونما وعي بالابتعاد في صورتيه الورقية والالكترونية حتى.
4ـ غياب السند السياسي:
التأطير السياسي في أي مجال هو عملية مُهمّة باعتبار السياسة هي السند الذي يكون داعما أو رافضا لهذا العمل أو ذاك، ولذك يسجل لنا التاريخ الإنساني موقف السياسة في نجاح مشاريع فكرية أو نهضوية أو فشلها ودحضها إن كانت مخالِفة للسياسة، وهكذا تنتصر المذاهب والإيديولوجيات إذا كانت لها خلفية سياسية معينة.
وفي تاريخنا الإسلامي نقرأ عن تشجيع بعض الخلفاء للكُتَّاب بأنه من ألّف كتابا فله وزنُه ذهبا.
ترتّب على التعالم كسلوك سلبي تركُ القراءة ومن ثم تركُ الوسيلة الأولى لطلب العلم، وتبعتها ظواهر أخرى كالتلاعب بالحقوق، فلم تعد دور النشر تحفظ حقوق المؤلف بحجة تراجع المقروئية، بل في الكثير من الأحيان صارت تشترط على الكاتب أن يدفع لها، وهكذا صارت الكتابة عملا يُغرَّم لأجله صاحبُه وكأنه عقوبة من العقوبات بدل أن تكون عملا ينبغي تثمينه كما هو في الأصل!
هذا التشجيع الذي ينمّ عن سند سياسي قوي كان مردوده تراثا ضخما خدم الإنسانية جمعاء خدمة واسعة. ولذا فمن أهم ما تحتاج إليه القراءة كفعل حضاري هو الدعم السياسي؛ ففي الوقت الذي نجد فيه تشجيعا للغناء باسم “خدمة الفن”، ولكرة القدم باسم “خدمة الرياضة”، نجد غيابا كليا عن تشجيع القراءة والكتاب، ومن ثم لم نفلح في صناعة القارئ.
والمتتبع لهذا الأمر يجد نفسه متابِعا للقرارات التي تصدر من الجهات السياسية المختلفة المسؤولة عن هذا الأمر، ومن ثم يمكن رصد مظاهر غياب الرعاية السياسية لفعل القراءة كفعل حضاري، ومن ذلك عدم الدعم؛ وأقصد به تحديدا هنا عدم دعم الكتاب؛ فالكاتب يقضي سنوات في تأليف الكتاب الواحد ليجد نفسه بعد ذلك يعمل من دون مقابل، فليست له حقوقٌ لدى أيِّ جهةٍ من الجهات لا من دار النشر التي تعامل معها، ولا من وزارة الثقافة التي يفترض أنها الجهاز السياسي المخوَّل بعملية النشر والتوزيع ورعاية حقوق الكاتب، ولا أيّ جهة من الجهات. في حين يكون الأمر عكس ذلك حينما يتعلق بفضاءات أخرى صارت منافِسة للمعرفة مثل الرياضة والفن، فما يُصرف على الغناء وعلى الرياضة خاصة كرة القدم لا يُتصوَّر، في حين ما يُصرف على الكتاب لا شيء، وعليه فالسند السياسي لفعل القراءة غائبٌ تماما.
وهذا الغياب في تقديري سببه عدم وعي الساسة أنفسهم، فضغط الجوانب الأخرى كالجانب الاجتماعي والاقتصادي تجعلهم يهتمون بها على حساب العلم والتعلّم، ومنها عدم تقدير الكاتب والكتاب وبذلك يتراجع فعل القراءة؛ فالسياسيُّ ينظر إلى الأمور نظرة آنية يستعجل فيها النتائج دونما تخطيط مستقبلي، وهذا ما جعلهم ينظرون إلى مجال التعليم على أنه مجالٌ غير منتج، ولا شك أن هذا ضعفُ وعيٍ سياسي يكشف عن سوء تقدير وعدم وعي بالفضاء المعرفي الذي ينتج لنا الإنسان، ونتج عن ذلك إهمال الكتاب الذي بدوره كرّس ظاهرة العزوف عن القراءة.
ومما سبق من عرض الأسباب التي حالت دون إقبال الجيل الجديد على الكتاب ومن ثم على القراءة كواجب من الواجبات من الأبعاد المختلفة، يمكننا القول إن صناعة القارئ منوطة بتجاوز تلك المعوقات، فبدل التعالم لابد من التواضع في طلب العلم واستشعار الحاجة إليه، وبدل اللامبالاة لابدّ من الجِد كسلوك إيجابي يورِّث انضباطا في مجالات الحياة كلها ومنها المجال المعرفي العلمي، وبدل الاستغلال السلبي والترفيهي للرقمنة تُستغلُّ في منحاها الإيجابي، وبدل غياب السند السياسي لابد من توفير السند السياسي للكاتب والكتاب وهكذا تتاح عملية صناعة القارئ، ويبقى خير جليس في الأنام كتاب.