أزمة تراكم الشيكل .. قنبلة نقدية في فلسطين!

في ظل الانهيارات المتسارعة على مختلف الصعد بفعل العدوان الإسرائيلي المتواصل، تواجه فلسطين أزمة اقتصادية ومالية من نوع مختلف، صامتة لكنها تهدد صميم الدورة الاقتصادية، وتخنق قدرة البنوك على الحركة، وتزرع القلق في صدور التجار والمواطنين على حد سواء. أزمة “تراكم الشيكل”، أو ما بات يُعرف بـ”الشيكل الخامل”، تحولت إلى قيد ثقيل على النظام المصرفي الفلسطيني، ينذر – إن استمر – بشلل واسع في التجارة والنقد، ومزيد من التدهور الاقتصادي.
أزمة عمرها سنوات انفجرت في وجه الجميع
سلطة النقد الفلسطينية أعلنت في بيان صدر بتاريخ 29 أيار/مايو 2025، أن البنوك الفلسطينية لم تعد قادرة على استقبال المزيد من النقد بعملة الشيكل، بسبب رفض إسرائيل المتواصل استقبال فائض العملة من السوق الفلسطينية، ما جعل تراكم الشيكل يصل إلى مستويات تهدد تمويل التجارة والرواتب والعمليات البنكية اليومية. هذه الأزمة ليست طارئة، بل ضاربة في جذور العلاقة الاقتصادية المختلّة التي أرساها بروتوكول باريس الاقتصادي عام 1994، والذي نص على أحقية سلطة النقد بتحويل فائض الشيكل إلى بنك إسرائيل لاستبداله بعملات أجنبية.
لكن، وكما جرت العادة، استخدمت إسرائيل هذه البنود كأدوات ابتزاز، وجعلت من السقف المسموح لتحويل الشيكل قراراً إسرائيلياً خالصاً، يخضع لمزاج سياسي لا لاحتياج اقتصادي.
أكثر من 22 مليار شيكل تتراكم… والمصارف تختنق
بحسب التقديرات، كانت البنوك الفلسطينية تعاني سابقاً من فائض سنوي يقارب 18 مليار شيكل، بينما قفز هذا الرقم مؤخراً إلى أكثر من 22 مليار شيكل، وسط انهيار المنظومة التجارية نتيجة الحرب على غزة، وتوقف أكثر من 200 ألف عامل فلسطيني كانوا يدرون شهرياً ما يقارب 1.5 مليار شيكل. ورغم هذا التراجع الاقتصادي، استمرت تدفقات العملة الإسرائيلية إلى السوق الفلسطينية، لتصل إلى مستويات تجاوزت قدرة المصارف على التخزين، وأُجبرت فروع على وضع الأموال في أكياس بلاستيكية وكراتين مؤقتة. وبحسب مصدر مصرفي، فإن بعض البنوك لم تعد قادرة حتى على تأمين خزائنها، ما رفع التكاليف التشغيلية وزاد من المخاطر الأمنية. هذه الكتلة النقدية تُصنَّف على أنها نقد غير فعّال، لا يمكن تشغيله في الإقراض أو الاستثمارات، ما يعني أن قيمة الشيكل المتراكم باتت أعلى من قيمته الاسمية.
قيود غير معلنة وإجراءات مجحفة بحق المودعين
تلقى موقع “بوابة اقتصاد فلسطين” شكاوى من مواطنين أفادوا بأن بعض البنوك بدأت ترفض الإيداع النقدي، أو تفرض سقفاً لا يتجاوز 3000 شيكل للموظفين، في حين يخضع التجار لقيود متفاوتة. ورغم نفي سلطة النقد إصدار قرارات بسقوف للإيداع، فإن الواقع على الأرض يقول غير ذلك. البنوك مضطرة للإجراء، لكنها لا تستطيع الإفصاح عنه بشكل رسمي. وبينما تؤكد سلطة النقد أنها تتابع الأزمة، فإن جهودها لم تُسفر حتى اللحظة عن أي نتيجة ملموسة، رغم مخاطبة جميع الجهات الدولية المعنية. من أين يأتي كل هذا الشيكل؟ وما سبب تدفقه رغم تراجع الاقتصاد؟ يتساءل المراقب: إذا كان الاقتصاد الفلسطيني في حالة تراجع، والعمال متوقفون عن العمل داخل إسرائيل، فكيف يتكدّس الشيكل بهذه السرعة؟ الجواب متعدد الأوجه:
- *أجور العمال قبل توقفهم لا تزال تخلق تدفقات متأخرة عبر حساباتهم المصرفية.
- *التهريب المنظّم للسجائر عبر معبر الكرامة، إذ يُعاد بيعها في الداخل الفلسطيني بأسعار مربحة، ما يُنتج تدفقات نقدية ضخمة بالشيكل.
- *فارق أسعار المحروقات بين الضفة وإسرائيل، ما يدفع الشاحنات القادمة من الموانئ إلى تعبئة الوقود في الضفة، ما يؤدي إلى استنزاف شيكل إضافي.
- *سلوك نقدي دفاعي من المواطنين، الذين يسارعون لإيداع ما لديهم من شيكل، خوفاً من انقطاع العلاقة المصرفية مع البنوك الإسرائيلية.
- *رفض بعض التجار، لا سيما أصحاب محطات الوقود، الالتزام بالدفع الإلكتروني، ما جعل نسبة الإيداع النقدي تصل إلى 70% مقابل 30% فقط إلكترونياً، رغم وجود بنية دفع حديثة وفّرتها سلطة النقد.
شيكل خامل… لكنه خطر فعلي
فائض الشيكل في السوق الفلسطينية لم يعد مجرد رقم، بل قيد على الحركة الاقتصادية، وعبء مالي على البنوك، وأداة ابتزاز سياسي بيد إسرائيل. والمثير في المشهد أن هذا الفائض لا يمكن استثماره أو تدويره، ولا يمكن تسويقه داخلياً في ظل اقتصاد مأزوم، بينما يتم التعامل معه كـ”أموال ميتة”.
سموتريتش… المال مقابل التنازل السياسي
تربط مصادر سياسية مطلعة أزمة فائض الشيكل بموقف سياسي إسرائيلي متشدد، يقوده وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش، الذي يستخدم هذه الأزمة للضغط على السلطة الفلسطينية بغرض الحصول على تنازلات، سواء في ملف المقاصة، أو في الشروط السياسية للمساعدات الدولية. وهذا ما يجعل من أزمة الشيكل ليست أزمة مالية فحسب، بل أداة حرب اقتصادية صامتة، تهدف إلى تفكيك الاستقرار المالي للسلطة وإخضاعها اقتصادياً، بعد أن فشلت إسرائيل في إخضاعها أمنياً أو سياسياً في ميادين المواجهة أو طاولات التفاوض.
خيارات ضيقة وحلول مستبعدة رغم ترويج بعض الخبراء لفكرة تعزيز الدفع الإلكتروني كحل جزئي، فإن هذا الخيار يحتاج إلى:
- *بنية تحتية رقمية متينة.
- *تشريعات تفرض الالتزام الصارم على جميع المؤسسات التجارية.
- *إرادة سياسية فلسطينية وإجبار إسرائيلي على السماح بتوسيع نطاق الدفع الإلكتروني.
- *أما الحل الجذري، فيكمن في تفعيل اللجنة الاقتصادية المشتركة المنصوص عليها في بروتوكول باريس، وهو أمر غير واقعي في ظل تعطل عملها منذ أكثر من عقدين، واستحالة إعادة تشغيلها دون تفاهم سياسي شامل، يبدو غائباً في الأفق.
وفي الختام، أزمة تراكم الشيكل لم تعد أزمة مالية داخلية عابرة، بل خطر بنيوي يهدد النظام المالي الفلسطيني بأكمله، ويضع السلطة الفلسطينية أمام اختبار صعب: هل تمتلك الجرأة لإعادة النظر في بروتوكول باريس؟ وهل تستطيع بناء سياسات نقدية مستقلة في ظل الاحتلال المالي الإسرائيلي؟ الشيكل لم يعد عملة للتبادل فقط، بل أداة للسيطرة، ومسماراً في نعش الاستقلال المالي الفلسطيني، بينما يصرّ الاحتلال على خنق الفلسطيني في جيبه، بعد أن فشل في كسر إرادته في الميدان.