أسباب الثّبات على الاستقامة (3)

من أنفع وأرفع أسباب الثّبات على الاستقامة: أن يعمل العبد لدين الله، ويقدّم ما يستطيع لنصرة عقيدته وقضيته، بجهده وماله وكلماته؛ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويسعى لتُظلّل شريعة الله العالم أجمع، وينصر قضايا أمّته ويقدّم العون لإخوانه بما استطاع: يقول الله -تعالى-: ((إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم)).. ونحن في زماننا هذا نرى ونسمع كيف يحارَب ديننا وتسخر الأموال ووسائل الإعلام والجيوش وتشترى الذّمم لحربه والصدّ عنه، وهي فرصتنا لنريَ الله من أنفسنا خيرا في الغيرة لدينه وبذل كلّ ما يمكن بذله للدّفاع عنه.
كما أنّنا نرى ما حلّ بإخواننا في غزة واليمن وسوريا والسودان وبورما والهند، ومن واجبنا أن ننصرهم ليس بالدّعاء فقط، إنّما بالكلام والكتابة والمال. طلبا لرضا الله أولا، ثمّ طلبا لأن يثبّت الله قلوبنا على طاعته ولا يسلبنا ديننا الذي خذلناه وتركناه.
ومن أسباب الثّبات أيضا: الصبر والمصابرة على الطاعات والصبر عن المعاصي والمخالفات؛ الصّلاة تحتاج إلى صبر ومصابرة ومجاهدة للنفس ومخالفة لهواها.. والمحافظة عليها في المسجد تحتاج إل اصطبار: ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)).. وتلاوة القرآن كذلك.. ولزوم الحجاب الشرعيّ الواسع في الصيف والشّتاء وفي كلّ الفصول يحتاج إلى جهاد للنفس وصبر أمام الواقع.. وبر الوالدين يحتاج إلى صبر وجهاد ومراغمة.. وأكل الحلال يحتاج إلى صبر أمام فتنة الحرام.. وإصلاح البيت يحتاج إلى صبر وطول نفس.. وغضّ البصر وكفّ اللسان عن الغيبة يحتاج كلّ منهما إلى صبر ومجاهدة: يقول الله تعالى: ((وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا”)).
وممّا يعين على الصّبر أن يتذكّر العبد العاقبة الحسنة للصابرين في الدّنيا وفي الآخرة: ((وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)).. هذه الدّنيا كلّها ساعة صبر، ويوم القيامة يحمد الصّابرون سعيهم، ويندم من استعجلوا شهواتهم في الدّنيا: ((وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا)).
ومن أعظم أسباب الثّبات: عدم التعرض للفتن، والبعد عنها، بل الفرار منها، يقول النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم-: “مَن سَمِعَ مِن الدَّجَّالِ فلينأ مِنهُ، من سَمِعَ من الدَّجَّالِ فلينأ منهُ؛ فإنَّ الرَّجلَ يأتيهِ يحسِبُ أنَّهُ مؤمنٌ فما يزالُ بِه لما معَه منَ الشُّبَه حتَّى يتَّبعَه” (رواه أبو داود).. فإذا أراد العبد المؤمن أن يُوقَى الفتن، فليبتعد عن أسبابها ويغلق أبوابها ونوافذها.. مثلا: إذا كانت نفسه ضعيفة أمام شهوة النّساء، فلا يفتح لها باب النّظر يمنة ويسرة في الشّوارع، ولا باب تصفح مواقع التواصل من دون هدف ولا غرض. لا يتبع النظرة النظرة، ولا يخالط النساء إلا لضرورة أو حاجة، وإذا اضطرّ فلا يفتح على نفسه أبواب الكلام والنقاش والأخذ والردّ، ولا نافذة المحادثات الخاصّة على مواقع التواصل.. ليكن حازما، وليقطع على الشيطان حباله عند أول خطوة، ولا يفتح لنفسه أبواب الفراغ، ولْيشغل نفسه بعمل ينفعه؛ بحفظ القرآن، مطالعة الكتب النافعة، تتبع فيديوهات القنوات الهادفة. وإذا ما قتل الفراغ، صفَت له نفسه وصفا له قلبه.
أخيرا لعلّه من الضروريّ أن نقول: لو كانت أمتنا قوية عزيزة منيعة، ما كان يليق بنا أن نتلاعب بديننا ونضيع صلاتنا ونهجر كتاب ربّنا وننقض غزلنا بعد رمضان، كيف وأمّتنا تمرّ بمرحلة حرجة ووقت عصيب؟! الأقصى يهوّد وغزّة تباد وتسوّى بالأرض، وإخواننا هناك يقتلون جوعا وقصفا؟! كيف يليق بنا أن نستهتر بديننا ونحن نرى ما يحلّ بإخواننا في غزّة لأجل دينهم وأمّتهم.. في هذه الأيام، بلغت قلوبهم الحناجر، بكوا حتى جفت دموعهم واستغاثوا حتى جفت حناجرهم، ولكن لا مغيث. حتى قال قائلهم: “الأرض تهتزّ من تحتنا، نعيش أهوال القيامة في هذه الليلة”.. وقال آخر: “جماجم الأطفال مهشّمة، وأشلاؤهم متناثرة في الطرقات، لا سامح الله من لا يتكلم عنّا”.. وكتب آخر بدموعه: “ساعات قلية وستمحى غزة. لن تجدونا إلا في الجنة.. وداعا يا أظلم أمّة عرفها التاريخ”.
ربّما تُقنعنا أنفسنا الأمّارة بالسّوء بأنّنا لا نملك لإخواننا في غزّة غير الدّعاء، فنُتمتم ببعض الدّعوات، ثمّ نمضي في حياتنا لا نغيّر فيها شيئا؛ نأكل ونشرب ونبذّر ونلهو وننام عن الصلاة ونهجر المساجد ونضع المصاحف في الرفوف ونعكف على لغو مواقع التواصل، ونتقاتل على الدّنيا.. لا والله، كان في وسعنا أن نفعل الكثير، لكنّ ذنوبنا هي التي منعتنا.. يقول أحد الدّعاة من غزّة: “قد نهوّن الأحداث الجارية الآن، إنْ قلنا: هي أهوال. فواللهِ هي أشدُّ من الأهوال؛ ولن تبالغ إنْ قلنا: هي صورة القيامة الصغرى! إلا أننا ومع ذلك كلِّه نعيش لحظات من السعادة، لو يعلم حقيقتها المحروم منها لجالدنا عليها بالسيوف. فنحن نعيش على ثغر مجتبى، وتحت لواء الشريعة، وندافع عن مسرى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعراجه إلى السماء، ونتفيأ ظلال الطائفة المنصورة المذكورة في أحاديث الوحي، وننتظر جائزة إحدى الحسنيين، وفي كلِّ ما مضى من الأجور ورفع الدرجات ما يطغى على كل مرارة وقهر وظلم.. كل الناس سيموتون، ولكن شتان بين موت في ساحة عزٍّ في عبادة هي ذروة سنام الإسلام، وبين موت على فُرُش الراحة ووسائد العجز، ومهاد الإخلاد إلى الأرض.. لا تبكوا غزة فهي بخير كبير، وابكوا على أنفسكم، وفتشوا عن ذنوبٍ مانعات من إدراك الصفِّ، وسبل النصرة بالممكن. فالكيّس الفطن من قام واستدرك، ورمى في المعركة بسهم الإعذار إلى الله، والبراءة من العجز والمستحيل”.