-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أسماكُ قرش أم سمك سردين؟

أسماكُ قرش أم سمك سردين؟
ح.م

نُساهم بهذه “الومضة” للقضاة، الذين وجدوا أنفسهم في بضعة أسابيع من اندلاع الحَراك الشعبي المبارك في مواجهة رؤوس الفساد، والحال أنهم تعوّدوا –بل وتمّت برمجتُهم– منذ عقود على التحرّك بإيعاز وتحت الضغط. ونُخصّص هذا المقال لقضاة النيابة الذين هم أساس كل متابعة قضائية.

قضاة نيابة أم موظفون بوزارة العدل؟

يشتكي قضاة النيابة من عدم تمكينهم قانونا من مباشرة بعض التحقيقات (القضايا الحسّاسة) دون الرجوع إلى الوصاية (وزارة العدل). وهو ما يجعلهم موظفين لديها، وينزع عنهم صفة القاضي الذي يحكم، وهو ما دفع بعض النظم القضائية إلى تسميتهم بأعضاء أو ممثلي (عوض قضاة) النيابة. وهو الدفع الذي أثاره النائبُ العام السابق لدى مجلس قضاء الجزائر العاصمة؛ زغماتي بلقاسم (وزير العدل الحالي) عند استشعاره خطر المتابعة التأديبية من قِبل الوزير الطيب لوح في قضية التصريح الصحفي المتعلق بالوزير شكيب خليل، إذ أثار زغماتي مسألة التبعية الرئاسية، وبأنه تصرّف وفق تعليمات وزيره محمد شرفي (الفقرة الثانية من المادة 60 من القانون الأساسي للقضاء). وهو ما يُفسِّر إعادة زغماتي إلى منصبه (تنحية بن عيس بن كثير) بعد استقالة بوتفليقة الذي حوّله إلى المحكمة العليا، لأنّ منصب النيابة العامة بالعاصمة سياسيٌّ بامتياز يتبع لسياسة الحكومة ويتقلب بتقلباتها، والأمر نفسه يسري على منصب وكيل الجمهورية لدى محكمة سيدي أمحمَّد (تنحية خالد الباي وتنصيب بن دعاس فيصل) التي يتوافد عليها كمتّهمين كبارُ المسؤولين ورجالات الأعمال.

إنَّ من أدوار ومهام النيابة العامة هو الحماية الاستباقية (الوقائية) للأشخاص وممتلكاتهم، وأيضا حماية المال العام وممتلكات الشعب (العمومية)، وعليه صحّ وصف وزير العدل السابق محمد شرفي لهم بأسماك القرش “أريد أسماك قرش لا سمك سردين…”. فكل النصوص المتضمنة القوانينَ الأساسية للقضاء (من الأمر رقم 69- 27 مرورا بالقانون رقم 89- 21 إلى القانون العضوي رقم 04- 11) تُلحقهم بالوزارة وتقيّدهم بالتبعية الرئاسية والانصياع للتسلسل الهرمي تحت طائلة المساءلة والمتابعة التأديبية. والحل لا يكمن في استقلالية النيابة عن الوزارة كسلطةٍ تنفيذية، فذلك –في نظرنا– مُجانبٌ للصواب، وهذا بالنظر إلى طبيعة النيابة واختصاصاتها ودورها المقابل لقضاة الحكم حفاظا على التوازن القضائي (العدلي)، بل يتجلى في تمتيع قضاة النيابة بقانون أساسي مميز، يسمح لهم بالتحرّك بحرّية وفق القوانين والتنظيمات دون الرجوع المسبق للوزارة الوصية، إلا في الحالات التي تتطلب التنسيق مع دوائر وزارية أخرى (حالات الإرهاب العابر للقارات والجريمة المنظمة دوليا). أما في الحالات الأخرى، فيكفي الإعلام البعدي للوزارة لتفادي الضغوط والتدخلات المسبقة التي قد تقبر كل تحقيق ابتدائي. وبالتبعية، يستبق ذلك، ضرورة إعادة النظر في التشكيلة التأديبية للمجلس الأعلى للقضاء عند مُعالجة ملف قاضي نيابة بما يسمح بالتدقيق في ملفه التأديبي من طرف قضاة نيابة لا قضاة حكم (03 قضاة نيابة فقط منتخبَون في المجلس الأعلى للقضاء من مجموع 21 في القانون العضوي رقم 04-12؛ ولمَ لا الرجوع لأحكام المادة 89 من القانون رقم 89- 21 المتعلقة باقتصار البثّ في مصير الملف التأديبي لقاضي النيابة على ممثلي قضاة النيابة (تنحِّي ممثلي قضاة الحكم)، وإشراك النائب العام لدى المحكمة العليا في رئاسة المجلس التأديبي.

قضاةٌ بامتيازات خاصّة

المرحلة الحالية المتميّزة بمتابعة كبار رجال الأعمال والوزراء والجنرالات تستدعي حماية لصيقة ودائمة للقضاة المحقّقين وقضاة النيابة وقضاة الحكم، بل ولعائلاتهم، وربما حتى كتَّاب الضبط المكلفين بتلك الملفات الثقيلة والشائكة، وهو ما دفع بقائد الجيش القايد صالح إلى تأكيد الحماية لهم “سنحمي القضاة…”.

دولٌ أخرى عرفت هذه المرحلة في تاريخها (ايطاليا، فرنسا، اسبانيا، انجلترا…)، ما جعلها تُؤسس لتنظيم قضائي يتماشى وتلك المرحلة (أنشأ الوزير بلعيز أقطابًا قضائية)، وذلك عبر تكليف قضاة متمرّسين بملفات القضايا المتعلقة بالفساد (وهم للأسف قلة، فاستنادا للمادة 35 مكرر من قانون الإجراءات الجزائية والمرسوم التنفيذي رقم 17- 324، لجأت وزارة العدل في سنة 2018 إلى فتح باب الانتداب لموظفين متخصّصين لمساعدة النيابة العامة في المحاسبة والمالية، والصفقات العمومية، والجمركة، والتجارة الدولية، وهو اعترافٌ ضمني بعدم إلمام النيابة بتلك المسائل)، وتمتيعهم طيلة مهامهم باختصاصات “امتيازية”، تعطيهم صلاحيات واسعة في المساءلة والتنقل للسهر على عمليات التحقيق والمعاينة (محليا ودوليا في إطار التعاون القضائي)، واستحضار كل من يعنيه أو يفيد التحقيق مهما علت وظيفته (رئيس، وزير أول، وزير، فريق، جنرال…) دون الرجوع إلى أيِّ جهة أو شخص. كل هذا، مع تأمين الحماية الجسدية التامَّة للقاضي وأهله من أيّ انتقام، أو إغراء، أو ضغط. والأهمّ، هو تحصينهم مهنيا باستقلالية مسؤولة تقيهم من أي تدخل تسلسلي أو ضغط من أي جهة مهما علت، وذلك بضمان عدم إنهاء مهامهم إلا لخطأ خطير، ولهم أن يتصلوا بالرأي العام مباشرة عبر ندوات صحفية أو في التلفزيون والإذاعة للإعلام أو طلب معلومات في فائدة البحث والتحري والتحقيق، وربما لطلب حماية الشعب أو ممثليه في البرلمان في حال الضغط والتدخل.

في المقابل، من حق الشعب الذي تُنطق باسمه الأحكام والقرارات القضائية أن يعلم ويتعرّف على المسار المهني لكل قاضي نيابة، وكل قاض تحقيق أو حكم عالج ملف فساد. لا سيما والصحف تُطالعنا، بامتعاض قضاة –عبر تسريبات– بتنصيب قضاة في وظائف قضائية عليا، والمعلوم عنهم قربهم من دوائر الفساد وعصابته (خطاب بوتفليقة، نشرة القضاة عدد رقم 56 لسنة 1999). ولنسأل أنفسنا: هل يقبل النظام الفاسد وجود قضاة نزهاء في مقابلته وجها لوجه؟ أم يريد قضاة فاسدين، عديمي الكفاءة، فاقدي المروءة، طيِّعين في الظلم، عصاة على الحق، يملك عنهم ملفاتٍ يبتزّهم بها؟ والمقاربة نفسها تسري على نقابة القضاة.
من هنا تبرز أهمية النقابة التي تحمي وتدافع عن القضاة الأكفاء والنزهاء، لا الفاسدين.

التشبّث بنقابة واحدة ووحيدة أم بعث نقابات عديدة؟

لا توجد سوى نقابة واحدة ووحيدة (يتيمة) للقضاة تتكلم باسم منخرطيها، أنشأها القاضي برّيم عبد الهادي ومن كانوا معه سنة 1990، ثم تصارع عليها أعضاؤها (الطيب لوح ضد برّيم، محمد رأس العين ضدّ لوح، ثم جمال عيدوني ضد رأس العين، فكمال أحمد حيمر ضدّ عيدوني وهكذا…). وهاهو أحد مؤسّسي هذه النقابة اليتيمة (بوصوف موسى) يتهم زملاءه بالانتهازية والانبطاح ويرمي بعضهم بالرشوة وإفشال محاولاته لمصلحة كرامة القاضي، ويدعو إلى إبعادهم من تشكيلة النقابة الجديدة (الخبر 25/4/2019). فهل قُدّر لقرابة 7000 قاض وقاضية التكلم بلسان واحد ووحيد لا ينطق إلا نادرًا؟ لماذا يُجبَر القضاة الشباب الذين التحقوا بالقطاع بعد سنة 2000 على ركوب قطارٍ لم يصنعوه ولم يرسموا مساره ولم يُستشاروا فيه؟ أهو قدرُهم المحتوم الذي لا مناص ولا مخرج منه؟ الأكيد لا… دولٌ عربية وأخرى إفريقية، حتى لا نقارن بالأوربية، يملك قضاتها عدّة نقابات تمثل قضاة الحكم، وأخرى تمثل أعضاء أو قضاة النيابة، وأخرى لقضاة الإداري، ولقضاة التحقيق (إنشاء القضاة لعدّة نقابات في دول إفريقية كبوركينا فاسو، البورندي، مصر، الغابون، غينيا، الكونغو…)، بل إنّ دول الجوار (تونس والمغرب)، تملك نقابة للقاضيات النساء منضوية تحت الجمعية الدولية للنساء القاضيات، وتبقى القاضيات الجزائريات متخلفاتٍ عن شقيقاتهن في تونس والمغرب على غير عادة المرأة الجزائرية (إحصائيات عدد القاضيات الجزائريات تغطي نصف تعداد القضاة، في حين نسبة توليهن للمناصب النوعية لا تصل النصف). والأكيد أنّ التعدّدية النقابية ستجعل السلطة القضائية تنضحُ بالكفاءة والنزاهة، وتنطق بلسان الحق والعدل.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!