أصل البلاء
نكبة عظيمة تعيشها أمّة الإسلام في هذه السّنوات الأخيرة.. كيف لا ودول المسلمين تكاد تكون صفرا على شمال العالم، لا تتّفق على قضية، ولا تنصر مظلوما بينها، ومن ينتصر منها للمظلوم تتحرّك أدوات المكر لتكيد له! وهو ما نشهده الآن في محنة غزّة وأختها الضفّة، فرّج الله كرب أهلها.. لقد بلغ الصّلف بالصّهاينة أنّهم أعلنوا عن نيتهم بناء كنيس داخل باحات المسجد الأقصى، وقد غرّهم بذلك مسارعة بعض دول المسلمين نحو التطبيع، وانهماك الشعوب المسلمة –إلا ما رحم الله- في أمور دنياها.
أخشى ما نخشاه الآن هو أنّ محنة الأمّة في أرضها المقدّسة قد تطول، وقد تتوسّع، حتى يخرج كلّ ما في الأمّة من دخن، ويظهر كلّ مخادن ومتستّر بولائه للصهاينة من ملوك وأمراء المسلمين على حقيقته، وتتمايز صفوف العلماء فيفرز العلماء الربانيون عن علماء الدّنيا، ويمحّص المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بين الرضا بالدنيا وبين الولاء للدّين والأمّة.
نعم، محنة الأمّة في بعض ملوكها وحكامها محنة عظيمة لا يجوز أبدا أن يُغضّ عنها الطّرف أو يدعى للتّقليل من شأنها، ومحنتها في بعض علمائها أيضا محنة عظيمة لا يجوز وما عاد يصحّ أو يصلح أن يستهان بها، لكن.. هل تنتهي محنة الأمّة عند حكامها وبعض علمائها الذين آثروا الفاني على الباقي؟ وهل نحن معاشر المسلمين لا نتحمّل أيّ مسؤولية في هذا الهوان الذي آلت إليه أمّة الإسلام؟ لا، والله، نحن معاشر المسلمين أيضا نتحمّل مسؤولية كبيرة في هذا الذي تعيشه أمّة الإسلام، لأنّنا إلا من رحم الله منّا آثرنا الدّنيا على الآخرة، ونسينا ديننا وجعلنا له فضول همومنا وأوقاتنا وأموالنا؟ أصبح ديننا وأصبحت قضايا أمّتنا في آخر اهتمامنا، لا نكاد نهتمّ بها، وإن اهتممنا لم يتجاوز اهتمامنا الكلام.. تمرّ بأمّتنا أوقات حرجة تُستهدف فيها مقدّساتنا، ومع ذلك لا نراجع أحوالنا ولا نتداعى للعودة إلى ديننا وإصلاح أحوالنا وتدارك تفريطنا في حقّ ديننا وتقصيرنا في حقّ خالقنا.
يقول نبيّ الهدى -صلى الله عليه وسلم- وهو يصف حال أمّته في زمان لعلّه زماننا هذا، يقول: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنّكم غثاء كغثاء السّيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حبّ الدنيا وكراهية الموت”.
أصبح الحديث عن الصّلاح وعن الحجاب الواسع وعن الوقر في البيوت وعن حني الرّأس والقصد في المشية وعن غضّ البصر وخفض الصّوت، وعن تربية الأبناء وطاعة الأزواج.. أصبح الحديث عن هذه الأمور لا يعني كثيرا من نسائنا أبدا، بل ربّما تسخر بعضهنّ من الحديث في هذه المواضيع والله المستعان.
ليست النّساء وحدهنّ من يتحمّل مسؤولية ما آلت إليه أحوالنا وأوضاعنا.. الرّجال أيضا يتحمّلون مسؤوليتهم، بل إنّ المسؤولية الأهمّ هي مسؤولية كثير من الرّجال الذين تخلّوا عن واجبهم واستقالوا عن مهامهم وتنازلوا عن قوامتهم، وألقوا الحبل على الغارب لنسائهم وبناتهم وأبنائهم، ما عاد يهمّ كثيرا منهم إلا أن يوفّروا حاجيات بيوتهم من المطاعم والمشارب والملابس، ليخلدوا بعدها إلى السّبات ويغيبوا عن الواقع ويغضّوا أبصارهم عمّا تقترفه الزّوجات والبنات وعمّا يجنيه الأبناء.
ليس كلّ النّساء كمن وصفنا، وليس كلّ الرّجال كمن ذكرنا.. فهناك بيننا في هذا البلد وفي كلّ رقعة من بلاد الإسلام رجال بحقّ لا يتنازلون عن قوامتهم ولا يرضون الدنية لنسائهم وبناتهم، وهناك بيننا في بلادنا هذه وفي كلّ رقعة من بلاد الإسلام نساء مؤمنات يتقين الله، ولا يرضين الهوان لأنفسهنّ.. لكنّنا جميعا مدعوون لمراجعة أحوالنا مع ديننا وقضايا أمّتنا، فربّما نكون سببا لما تعيشه أمّتنا من ذلّ وهوان، فنحاسب بين يدي الله الواحد الديان، حسابا تفرق له القلوب ويشيب له الولدان.