-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
عندما يتحوّل الحراك الشعبي إلى جمهورية فاضلة في الجزائر

أطفال ضحّوا بعطلهم وبلعبهم من أجل المشاركة في المسيرات المليونية

الشروق أونلاين
  • 546
  • 0
أطفال ضحّوا بعطلهم وبلعبهم من أجل المشاركة في المسيرات المليونية
تصوير: زهور سبع وخالد مشري

“لا يمكننا العيش بعيدا عن مسيرات الخير، التي وحدت الجزائريين”.. جملة رددتها سيدة، بعد أن أنهت واجبها في مسيرات الحراك الشعبي، الذي حلّق بالجزائر إلى عالم آخر، بعد أن صار الشعب يقرّر بالإجماع والسلطة تستجيب صاغرة، حتى ولو أبدت مقاومة في بعض الأمور.

البعد السياسي المستعجل والظرفي لهذه المسيرات التي أملتها الظروف القاهرة في البلاد، بعد أن تيقن الجزائريون من أنهم عرضة للسخرية من مجتمعات أخرى، بعد أن عاث أمثال جمال ولد عباس وبن حمو وغيرهما فسادا في صورة الجزائر، هو الذي جعلهم يرفضون الأمر الواقع الذي حاولت عصابة قوية ومتجذّرة في البلاد غرسه بالقوة، من خلال وضع رئيس لم يعد قادرا على الكلام ولا على السمع ولا على التفكير، رئيسا بالصورة وهم يحكمون بدلا عنه بقيادة شقيقه السعيد، وينهبون المال العام. وضع بدأ بالعشرات وانتقل إلى الآلاف ومنه إلى عشرات الآلاف، ومن مئات الآلاف تحوّل إلى الملايين، شعب جمعه الشارع والمشاعر، في ما يشبه الجمهورية الأفلاطونية الفاضلة التي لا شيء فيها سوى الخير، حتى تتخيل في بعض المسيرات أنك تتجوّل وسط الملائكة ولست مع البشر.

الناس صاروا يضبطون ساعاتهم ويومياتهم على موعد الجمعة، فمباشرة بعد صلاة الجمعة يلتقون في أكبر عرس في تاريخ البشرية، ليوصلوا أصواتهم إلى السلطة، يرفضون قراراتها الارتجالية التي لا تتماشى مع طلباتهم ويقبلون البعض منها بطريقة حضارية فيها الكثير من صور التضامن والإخاء الذي عجزت مختلف الحكومات منذ الاستقلال ومختلف الأحزاب عن الإتيان بمثله، بل عجز كل رؤساء البلاد من عهد أحمد بن بلة إلى عهد عبد العزيز بوتفليقة مرورا ببومدين والشاذلي وكافي وبوضياف وزروال، عن جمع واحد بالمئة من هذه الحشود التي لم تجلبها حافلات مجانية إلى وسط المدن ولا قطع الكاشير، وإنما جمعتها روح وطنية خاصة جدا، وحب الحياة في كنف الأخوة والتعايش الذي ولّد صداقات قوية وحتى قصصا عاطفية بين الناس.

المسيرات التي جمعت كبار السن والمرضى والمعوقين من كل أطياف المجتمع، صارت جنّة بالنسبة إلى الأطفال الذين أمضوا عطلتهم الربيعية السابقة، في قلب الحراك الشعبي، وقد ضحوا بأيام اللعب من أجل السير مع أوليائهم في المسيرات يلتقطون صورا للذكرى وللتاريخ ويتعلمون السياسة وأشياء أخرى كانوا غافلين عنها.. ولو خيّرت أي طفل بين أخذه إلى حديقة التسلية والحيوان والمسابح، أو المشاركة في المسيرات، فإنه سيصرّ على أن يسير وسط أمواج الناس، يهتف باسم الحرية، ويطالب بالتغيير وبرحيل رموز الفساد الذين خطفوا براءة الأطفال وزرعوا بدل الأمل، بذور الألم، وجعلوا الصغار يعرفون كلمات غريبة وغير بريئة مثل الحرقة والكاشير والشيتة.
أخيرا وجدت صديق العمر!

يقول وائل، وهو شاب في الثامنة والعشرين ربيعا، بأنه من أول جمعة لاحظ شابا يعتصب علما ويذرف دموعا وهو يصيح بأعلى صوته: “لقد أذهلنا العالم بثورتنا، ولا نريد أن يضحك علينا نفس العالم ونحن عاجزون عن صنع رئيس كامل الأوصاف والصحة”، ويكمل وائل حديثه: “زلزلني كلام الشاب المدعو طارق، وتقدمت منه وطلبت التعرف عليه وكانت المفاجأة بأن استحسن وجهات نظري، ووضع يده في يدي بالرغم من أنه يصغرني بخمس سنوات، هو طالب جامعي في كلية الطب، وأنا مهندس في شركة خاصة، هو أعزب وأنا أب لطفلة، هو من عائلة فقيرة جدا، وأنا من عائلة ميسورة الحال، ومع ذلك اجتمعنا وصرنا أصدقاء ولا نظن أن من جمعتهم المسيرات سيفرقهم أي ظرف آخر”.. كلام وائل لم يكن زبدة تذيبها شمس اليوم الموالي، فقد قررا معا الانضمام إلى الشباب المكلف بتنظيف الشوارع أثناء المسيرات وتنظيم المشاة، وكتابة اللافتات، ولم يعد وائل يُشاهد إلا مع صديقه الطالب الجامعي، يتبادلان النصائح ويزوران بعضهما البعض وفي زمن المسيرات يكونان المنشطين الأكثر حركة ورأفة بالكبار وبالصغار، إلى درجة أن وائل اشترى الكثير من المظلات والقبعات ووزعها رفقة صديق العمر طارق في هذه المسيرات التي بلغت فترة الربيع الحارة نوعا ما بشمسها في وقت الظهيرة، خاصة أن طارق طالب طب ويمكنه مساعدة الناس في حالة ضربات الشمس أو أي وجع سواء بنصائحه أم ببعض الأدوية التي يحضرها معه.
في كل التجمعات الحزبية والحكومية يوجد طاقم طبي كامل، ومع ذلك تحدث الإصابات الطبية، وأحيانا حالات الوفاة، ولكن في مسيرات الخير، بمجرد أن يشعر شخص واحد بالألم حتى يتحوّل الشارع كله إلى مستشفى، ويتحول كل المشاركين والمشاركات إلى أطباء وممرضات.

لبنى أيضا، شابة اصطحبها والدها إلى المسيرة فتعرفت على شابة في عمرها، أي العشرين، وجمعتها بصديقتها الجديدة كلثوم، زمالة، وصارا يلتقيان في كل مسيرة وفي خارجها، وتقول لبنى: “ظننت أن الصداقات تربطها الدراسة والجيرة، ولكن المسيرات منحتني نظرة أخرى عن الصداقة، فأحسن صديقة من تجمعني بها مغامرة جميلة، ونكون معا ضمن قافلة الدفاع عن حرية الجزائر، أشعر أحيانا بأنني أنا حسيبة بن بوعلي وصديقتي كلثوم هي جميلة بوحيرد”، صديقات لبنى في الدراسة الجامعية وفي الحيّ صرن يغرن من صديقتها الجديدة التي بنت معها جسور الصداقة المتينة في مسيرة الخير التي غيّرت الجزائريين ونقلتهم إلى عالم لا شبيه له، إلا ما حدث مع رعيل الثورة الأول.

ولنا في صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خير مثال، عندما جمعتهم الرسالة وضرورة إزاحة عصابة قريش من الوجود واستعادة الحرية والإيمان، فسمّوا أنفسهم بالصحابة، وقال فيهم تعالى: “محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم”، إلى آخر الآيات التي ترسم حقيقة الصحابة الذين ساروا مع بعض في أروع حراك توّج في الأخير ببناء الدولة الإسلامية التي أوصلت نورها إلى القارات الخمس، لأن كل من كان هدفه خيريا وحضاريا رافقته عين الله التي لا تنام.

نظرة فموعد.. فلقاء

أجمل ما في مسيرات الخير، أنها ضمّت الكثير من أفعال وعلاقات الخير البريئة، ومنها الزواج.. ففي مدينة قسنطينة بنت عائلتان علاقة اقتران بين شاب وشابة، الأول تاجر رفقة والده في محل للمرطبات، والشابة جامعية مهندسة أنهت دراستها الجامعية منذ بضعة أشهر، اللقاء حدث في ثالث الجمعات بعد الثامن مارس، حيث دخلت النساء والعائلات عموما بقوة في هذه المسيرات، والتقت عائلتان وتجاذب الوالدان أطراف الحديث وأطراف الحلم ببلد لا يُظلم فيه أحد، والتقت الوالدتان أيضا، وبدأ التيار يسير بينهما وكأنهما تتعارفان منذ سنوات، وتبادلت العائلتان الزيارة والعواطف الأسرية الراقية، كانتا تتحدثان كثيرا عن السياسة وقليلا عن جزائر المستقبل وصار اللقاء في كل جمعة في ساحة لابريش بقسنطينة.. وبقدر ما كانت شوارع المدينة تجمع مئات الآلاف من الناس، بقدر ما كانت العائلتان تلتقيان وتصرّان على إنجاح هذه المسيرات، إلى أن تعرفت ابنة إحدى العائلتين بابن العائلة الأخرى، وتجاذبا الإعجاب في إطار أخلاقي راق، وكانت السرعة في التنفيذ بإعلان الخطبة في صباح الجمعة الماضي، واللقاء بعد صلاة الجمعة في المسيرة الراقية.

يقول والد العروس، وهو أستاذ جامعي في الرابعة والخمسين من العمر: “لقد قرأت عن الكثير من الزيجات التي حدثت إبان الثورة، وكان الجامع فيها هو المصير المشترك والهدف الحضاري، وغالبية عظماء البشرية ارتبطوا من شاركتهن نفس الهمّ السياسي أو الاجتماعي، وأنا فخور بأن ابنتي تعرفت على شريك العمر في مسيرات العمر، التي جعلت الجزائريين لأول مرة في تاريخهم يزيحون رئيسا عمّر عليهم عشرين سنة”.

هناك من حاول اتهام رواد المسيرات وهم شعب يمثل دولة قائمة بذاتها بأن الشباب يذهب لمعاكسة البنات والعكس، وهو رأي من يشاهد الجزء الفارغ من الكأس فقط، وكما غاب الوسخ الظاهر على أبدان السائرين المتظاهرين وعلى الشوارع، فإنه غاب في سلوك الناس، ولا أحد في هذه الجمهورية بإمكانه أن يمارس الممنوع من معاكسة وتحرش، أو مجرد إرسال كلمة إعجاب إلى شابة وسط عائلتها المطالبة بالحياة السعيدة ومتابعة الفاسدين في البلاد من أجل بلد جديد مبني على الأخلاق أولا وقبل كل شيء.

لقد كانت التجمعات البشرية الكبرى دائما ملتقيات خير، سواء كفاحا أم جهادا أم علما أم دينا مثل مناسك العمرة والحج، فهي فرص من ذهب لأجل عقد العلاقات العائلية المؤدية إلى الزواج، وكثير من الصحابة والرعيل الأول اختاروا شريكة العمر في مواسم الحج الأكبر، وكانت هذه الزيجات الأنجح دائما لأنها بدأت بمناسبة غالية على قلب الرجل والمرأة، فتحقق التآلف الذي حلم به الناس في الحياة العامة طوال العمر، فتحقق في مثل هذه المناسبات التاريخية ومنها الحراك الشعبي الجزائري، الذي سيؤرخ له وبه الجزائريون والجزائريات بعد سنوات وربما قرون، لأنه أعاد للجزائريين حريتهم التي سُلبت منهم، حتى صارت عصابة من الرجال تختار لهم من يقودهم. قبل أن يقذفوهم جميعا في مزبلة التاريخ، وستبقى أي صداقة أو علاقة عاطفية نبيلة خالدة، لأنها تمّت في مناسبة راقية لن ينساها الجزائريون والجزائريات أبدا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!