أعاجيب فوضوية بناها مواطنون في قلب المدينة الجديدة بقسنطينة
باشرت في الأيام الأخيرة السلطات المحلية بدعم من القوة العمومية، في العديد من المدن الجديدة بكبريات الولايات عمليات تهديم، البنايات الفوضوية المشيدة في الخفاء، والمتواجدة في قلب الوحدات الجوارية، وهي في الغالب نمت أمام صمت السلطات المحلية، وكانت تحت شعار تقديم الخدمات ومنها التجارية لسكان الوحدات المحرومة من مثل هذه الخدمات.
“الشروق” رافقت واحدة من هذه العمليات في الوحدة الجوارية رقم 14 بالمدينة الجديدة علي منجلي بولاية قسنطينة، حيث اتضح بأن بعض المستودعات والتوسعات في قلب العمارات هي أشبه بالأمر الواقع، الذي فرض نفسه لعدة سنوات خارج القانون وارتضاه السكان وصمت عنه المسؤولون.
غالبية التوسعات الفوضوية، أبطالها سكان الطوابق الأرضية، حيث أنجز بعضهم ما يشبه المستودعات لركن سياراتهم، ومع مرور الوقت اشتد البناء وتوسّع، ومنهم من استعمل الطوب وحتى الحديد والقصدير، إلى درجة أن أحد المستودعات تم تجهيزه بباب مستورد من تركيا كلف بالتأكيد صاحبه الملايين، وبدا المستودع وكأنه بني من مؤسسة خبيرة وتحت إشراف مهندس معماري.
المواطنون الذين لجأوا إلى مثل هذه الممارسات، قبلوا بألم واقع تهديم ما بنوه منذ سنوات، ولكنهم كانوا يطالبون بتطبيق القانون على كل التوسعات الفوضوية الموجودة في غالب أحياء وبلديات قسنطينة ومنها حي الدقسي وهو حي يوجد فيه مقر ولاية قسنطينة، الذي بنى فيه الساكنة حدائق أسفل العمارات، وسيّجوها بالحواجز، وأكشاك يبيع فيها منجزوها مختلف المأكولات، أو ببلدية عين السمارة، حيث لكل طابق سفلي مستودع ومساحة توسعة خارج القانون.
مواطنون أنجزوا مداجن لا تختلف عن المداجن النموذجية، حيث تسمع فيها صياح الديكة والدجاج باستمرار وفي كل أوقات الليل والنهار، وتشاهد البيض أمام مرآى الجميع وكل هذه المستودعات هي التي تستقبل طبعا خرفان العيد، ويتم فيها الذبح والسلخ. بينما تعذر على شباب هذه السكنات الاجتماعية لضيقها من تربية الكلاب المفترسة الهجينة مثل “البيت بول والرود فولر والدوبرمان”، فأقاموا للكلاب الخطيرة مستودعات، يقومون فيها حتى بتلقيح هذه الكلاب وبيعها، ومنهم من امتلك “بطاقة زيارة” كتب عليها عنوان تواجد الكلاب المعروضة للبيع وهاتفه وطبعا العنوان وهو هذه المستودعات الفوضوية التي فرضت على الساكنة هذا الحرج وهذا النباح الصادر من الكلاب.
البلدية تعلم.. ولكن!
يُجمع المواطنون على أن تهديم هذه التوسعات الفوضوية، يمنح للأحياء منظرا بهيا، ويقيهم الكثير من المشاكل وأهمها الفوضى والأوساخ، ولكنهم في نفس الوقت يلومون سلطات البلدية التي نامت لعدة سنوات وصحت متأخرة نوعا ما، فقد تحدث إلينا شاب في الثلاثين من العمر، قال بأنه بنى كشكه لخدمة المواطنين بالمواد الغذائية التي يفتقدونها في الوحدة الجوارية رقم 14، من طماطم معلبة وعجائن وحليب وزيت ومواد تنظيف، وهذا منذ ست سنوات، ويقول صاحب الكشك الفوضوي عبد الباسط، بأنه، بنى مستقبله على هذا الكشك، حيث دخل القفص الذهبي منذ سنتين وتقدم لطلب الزواج باسم تاجر رغم افتقاده للسجل التجاري، وله الآن طفلة في ربيعها الأول، ليجد نفسه من دون مصدر رزقه.
أما المسؤولين على البلدية فاعترفوا بصعوبة التعامل مع ملف البناءات الفوضوية لأنها جميعا أو على الأقل غالبيتها يعود إلى العهدة المحلية السابقة أو التي قبلها، كما أن كثرة هذه التوسعات الفوضوية يجعل من التحرك معقد جدا.
يتحدث مسؤول في المقاطعة الإدارية علي منجلي بولاية قسنطينة للشروق اليومي، عن السبب الذي جعل من الأكشاك والمستودعات والمحلات التجارية الفوضوية المبنية بالقصدير وأحيانا حتى بالطوب والإسمنت تنتشر بشكل مريع في المدينة الجديدة علي منجلي بالقول: كان في الأصل منذ تسعينات القرن الماضي التفكير في إنشاء مدينة جديدة بولاية قسنطينة، لترقية مستوى السكن واحتواء مشاكل المدينة القديمة، ولكن أزمة السكن الخانقة، ولّدت السرعة في التنفيذ والارتجالية، والمدينة الجديدة حاليا تسير بسرعة لاحتواء مليون نسمة قريبا، وبقيت لعدة سنوات وعدد قاطنيها يزيد عن نصف مليون نسمة مجرد حي تابع لبلدية الخروب، فكثرت مشاكلها وغابت الحلول، ولم يتم التفكير في تحويلها إلى مقاطعة إدارية، إلا في سنة 2015 وتم التوقيع على المرسوم الرئاسي رقم 18-337 المؤرخ في 25 ديسمبر 2018 المتضمن إحداث مقاطعات إدارية في المدن الكبرى وفي بعض المدن الجديدة وتحديد قواعد تنظيمها وسيرها، والذي دخل حيز التطبيق فور صدوره في الجريدة الرسمية في 2019، بعد أن صارت الفوضي فيها أشبه بالأمر الواقع، أي بعد إنجاز وحدات جوارية بالكامل منذ أكثر من عشرين عاما من الفوضى التي نمت فيها هذه التوسعات أما مرآى الجميع.
حيث كانت هناك وحدات جوارية تضم آلاف السكان لا يوجد بها متجر واحد، فبدأ الشباب في بناء توسعات تبيع الخضر والفواكه والمواد الغذائية المختلفة والخبز والحليب، أمام ترحاب السكان، خاصة أن المدينة الجديدة لم تكن بها المساحات التجارية الحالية، وكان المواطنون يتنقلون على مسافة تقارب 20 كلم للمدينة القديمة أو إلى بلدية الخروب لاقتناء حاجياتهم، ومنهم من انتقل إلى تجارة أخرى من ألبسة وقطع غيار السيارات، ومهن مثل الميكانيكا والإسكافي والنجارة والحدادة في قلب السكنات، وكذا فضاءات للدروس الخصوصية.
وزادت الأزمة الصحية أزمة الفوضوي تعقيدا، مع جائحة كورونا، وتحولت بعض الوحدات الجوارية على غرار الوحدة الجوارية رقم 14 مجرد كومة من الفوضى، قبل أن ترى بعض النور في الأيام الأخيرة عندما تم إزالة غالبية إن لم نقل كل التوسعات الفوضوية، ومنها ما سيتم تحويله إلى مساحات خضراء وأفكار أخرى هي رهن الدراسة، تكون جميعها لفائدة الساكنة.
أما عن التغييرات الكبيرة التي حدثت في العديد من العمارات التي ضيعت بعضها شرفاتها التي تحوّلت إلى غرف وهناك من امتلك فضاء أو مساحة شاغرة في طابق علوي بنى عليه حجرة فوق سقف بيت جاره السفلي، أو التي قام فيها سكان الطوابق السفلية بتحويلها إلى دكاكين وصالونات حلاقة ومقاه، ومنهم من حصل على سجلات تجارية لممارسة مهنته والبعض نقل أعماله إلى سطوح العمارات، فالكرة في جهة “أو.بي.جيي” حسب ذات المسؤول، لأنها مالكة لهذه العمارات التي تحوي سكنات اجتماعية، وصورة العمارة المنهارة في مدينة بشار مازالت في الأذهان.
إرجاع الوحدة الجوارية إلى منظرها البهي، بدأ منذ حوالي ثلاثة أسابيع، وسار طبقا لرزنامة واضحة، وبعد تنبيه أصحاب هذه التوسعات عبر مراسلات وحضور شخصي أيضا، وشارك في العملية ديوان الترقية والتسيير العقاري وعدد من المؤسسات العمومية، مثل مؤسسة النظافة “إيغيفام” العمومية، ومؤسسة تسيير الحاويات بقسنطينة “بروبراك”، بالتنسيق مع السلطات الأمنية والمدنية المحلية، وبمباركة من سكان الوحدات الجوارية التي غزتها الفوضى، على أن تنتقل العملية إلى وحدات جوارية أخرى في قادم الأيام، كما هو الحال في غالبية المدن الجديدة التي تحاول أن تكون مثل اسمها، جديدة، من دون ممارسات قديمة، مع التفكير في إيجاد مساحات أخرى شاغرة للشباب لممارسة مهنهم حسب المسؤولين الذين أشرفوا على عمليات تحرير السكنات من قيود الفوضى.