-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أكاديمية العِلـم المُـتَأَنّي

أكاديمية العِلـم المُـتَأَنّي

لا نذكر اسم ذلك العالم الألماني الذي عاش في مطلع القرن الماضي، وقد دعا كبار علماء عصره إلى الكفّ عن نشر أعمالهم مطالبًا بوضع منهج جديد يحمي العلم من المتطفلين. والسبب أنه لاحظ تكاثر نشر البحوث العلمية ذات المستوى السطحي التي تجترّ أعمال عمالقة العلم. وهو ما يعتبره كارثة. وبرّر آنذاك موقفه بأن “المجترّين” سيتضاءل عددهم إذا لم يجدوا مادة يجترّونها. ويُذكر أن هذا العالم وُجدت خزائنه مليئة ببحوث غير منشورة إثر وفاته… بعد أن طبق هذا المبدأ على نفسه!

“تحمّلونا، فنحن نفكّر”

وفي عام 2010 رأت العاصمة الألمانية برلين نشأة “أكاديمية العِلم المُتأنّي” The slow science academy. وقد أصدرت بيانًا مطلعه : “نحن رجال علم لا ندوِّن ولا نغرِّد. نحن لسنا مستعجلين”! واختتمه أصحابه متجهين إلى سكان المعمورة : “صبرًا، تحمّلونا، فنحن نفكّر”. أما مضمونه فهو دعوة إلى التريّث في نشر الأبحاث حتى تدرك مرحلة النضج لأن العلم يحتاج إلى وقت للتأمل…
يقول البيان: “نعم” لتزايد التخصصات العلمية، وللعمل على تسريع عملية إنتاج الأفكار العلمية، ولتكاثر عدد المجلات المحكّمة. ثم يستدرك ليؤكد أن ذلك ليس كل ما يُطلب من العلم… لأن العلم له نصيبه من الشك في نتائجه، ومن ضرورة التعديل والتحسين. ولذا فهو يحتاج إلى الاطلاع وإعادة القراءة ليخطئ الباحث ويصيب سعيًا إلى الأفضل. كل ذلك يستدعي وقتا، وأحيانا وقتا طويلا. فلماذا نستعجل نشر النتائج الغثّة والمتسرّعة التي تخطئ كثيرا وتصيب قليلا؟!
هناك مثل شهير يتردد في عالم البحث الأكاديمي يقول “اُنشرْ أو اَندثرْ” Publish or perish . تعمل بهذا المبدأ الكثير من المؤسسات الأكاديمية في العالم الغربي، وحتى عندنا بوصفنا مقلّدين سيئين. ومفاد هذا المبدأ أن أستاذ الجامعة والباحث في المراكز الأكاديمية لا بد أن ينشر، وبسرعة، حتى يظهر ذلك في تقييمه السنوي. وينجرّ عن ذلك تزايد في الكم وندرة في الكيف. تلك هي آفتنا نحن أيضا في جامعاتنا وفي قواعد الترقيات فيها.
وفي الغرب، يثور الكثير ضد هذا “الاضطهاد” في حق الباحث الذي يضطر إلى نشر أبحاث مُجزّأة غير مكتملة خلال سباقه ضد الزمن. يحدث ذلك في الوقت الذي يحتاج فيه التقدم العلمي إلى التأنّي وعدم إزعاج الباحث بتقييده بالزمن. وفي هذا السياق، يرى المناوئون لمبدأ “”اُنشرْ أو اَندثرْ” أن على الخبراء البحث عن حلول أنجع لهذه المسألة. ومنهم من يقترح مثلا الإكثار من النشر الأولي في مراكز البحث -أي نشر المقال داخليا كصيغة أولية للبحث مع إطالة مدة عرضه قبل النشر النهائي- وذلك ليطلع عليه المختصون فيثرونه ويُبدون فيه آراءهم، ثم يُدخل عليه صاحبه التعديلات المناسبة على ضوء ملاحظات الزملاء وتقدمه الشخصي في موضوع المقال.

دور نشر ومجلاّت محتالة

يرى المناوئون أيضا عيوبا كثيرة في مقاييس الترقية والتمويل السارية المفعول لأنها تدفع كلها نحو التسرّع في النشر على حساب نوعية المضمون. ومما زاد الطين بلة ظهور فئة متزايدة من أشباه الأكاديميين عبر العالم جعلت من إنشاء المجلات “العلمية” سوقا تجارية ومرْتعًا للـ”البزنسة” وابتزاز المغفلين وصغار الباحثين وحتى البعض من الواعين الساعين إلى الترقيات بكل الوسائل. كيف ذلك؟
باستعمال الشبكة العنكبوتية، يفتح المحتال موقعا ويعلن أنه موقع إلكتروني لمجلة “أكاديمية محكّمة” تنشر بسرعة البحوث الراقية. وعندما يفترس الناشرُ المحتال ضحيتَه يخبره في آخر لحظة أن النشر ليس مجانيا! وبعد الدفع يُنشر المقال دون أي تحكيم. وفي هذا الباب -وللتنديد والتشهير بهذه المجلات التي تخدع الباحثين المبتدئين- قام باحثون بعدة تجارب تمثلت في إرسال “بحوث” إلى بعض تلك المجلات تبدو جدية لكنها من دون مضمون علمي. وحدث أن نشرت المقالات المُرسلة كما هي!
بل ذهب البعض إلى تصميم برنامج معلوماتي يكفي أن تضع فيه اسمك ومؤسستك واختصاصك ليظهر لك خلال ثوان مقالا باسمك جاهزا من أوله إلى آخره بديباجته وبمراجعه. وهناك من اختبر بعض المجلات بإرسل مثل هذه المقالات فقُبلت للنشر! وبهذا الصدد، عدّدت المديرية العامة للبحث العلمي عندنا عام 2016 ما يزيد عن 1160 ناشرا و 1300 مجلة من هذا القبيل. وبلغ الرقمان خلال هذه السنة 1195 ناشرا و 1395 مجلة!!
ويقرّ الخبراء بأن أسوأ داء يصيب البحث العلمي هو “البَرَقْرَطة” القاتلة لكل عمل جاد. والوضع الحالي حوّل الباحث إلى ما يشبه الممثل التجاري الذي يلهث لبيع واستعراض “مهاراته” وفق صفقات تأتيه ببعض التمويل وتُلبسه بعض الترقيات التي تقرّبه من مراكز اتخاذ القرار وتبعده في ذات الوقت عن مراكز العلم! وخلال هذا التحوّل تضيع كرامة الباحث.
ويرى هؤلاء المتتبعون أن الاحتقار الذي ينظر به الوسط المدرسي إلى المهن اليدوية من شأنه أن يعيق تطور “اقتصاد المعرفة”. ذلك لأن المعارف الآتية من “أشباه الباحثين” ستكون، لا محالة، سطحية. وقد شبّه أحدهم “العلم المتأنّي” بالأشجار البطيئة النمو التي تؤثر في محيطها وبيئتها على المدى البعيد، وشبّه “العلمي المتسرّع” وما فيه من غثّ بالأعشاب التي تنبت عشوائيا هنا وهناك ثم لا نجد لها أثرا عندما ننتقل من فصل إلى فصل خلال السنة!
في ختام بيان “أكاديمية العِلم المتأنّي” نقرأ هذا النداء الموجه من العلماء إلى الجمهور : “نحن بحاجة إلى وقت للتفكير. نحن بحاجة إلى وقت للاستيعاب. نحن بحاجة إلى بعض الوقت بسبب سوء فهمنا لبعضنا البعض، لا سيما عند تعزيز الحوار المفقود بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية. نحن لا يمكننا اطلاعكم باستمرار عما يعنيه علمنا؛ وعما ستكون منافعه لأننا ببساطة نجهل ذلك لحد الآن. العلم يحتاج إلى وقت.”!! للأسف، فبين هذا النداء وبين وضعنا مسافة ضوئية!!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
6
  • جميل يسري

    شكرا على المقال الرصين أستاذ.ذكرنا أصحاب منتدى العلم المتأنى بأدبيات طلب العلم و بذله في تاريخنا الإسلامي المجيد حيث كان يُنصح بأخذ العلم عن الأكابر و يُحذر من يتصدر الأصاغر و الأحداث مجاس العلم و الفتيا لأنهم يتسرعون و لا ينضجون المسائلدرسا و بحثا و كان يقال لمن زعم المشيخة في العلم و هو حدث صغير أنه "تزبب قبل أن يتحصرم"أي كالعنب يصير زبيبا وهو لم ينضج بعد..و كما قال تعالى" فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" ولقد كان العلم كما قيل في صدور الرجال ثم صار في بطون الكتب و صارت مفاتيحه بأيدي الرجال و أخشى أن أقول أنه صار اليوم في مواقع الأنترنيت و مفاتحه بأيدي الجهال..

  • Algerien

    Une chose est sur que notre academie des sciences et des technologie c'est du "very slow sciences". N'est ce pas Mr. Sadallah

  • محب السلف

    شكرا أستاذنا على الفوائد

    يقال أن كيبلر (Kepler) نشر بحثه بعد 40 سنة من التحقيق...اليوم عليك أن تنشر 40 بحثا في السنة!

    حتى في علوم الشرع تجد البلوى عمت..كثيرا ما ينتقد الألباني (وغيره) رحمه الله طلاب علم يؤلفون الكتب ويقول حب الظهور يقصم الظهور.

  • ahmed

    وفي الغرب للاسف هاته الطينة من المفكرين تكاد تنقرض وكان تجاوزتها الاحداث. لذلك اصدرت هاته الاكاديمية قالت اصبرو علينا. المشكل ان المجتمعات الحديثة بما فيها البحوث لن تصبر عليها. اما ان يقود العلم القاطرة او يقودها قوقل يوتوب وفيسبوك والشركات والانظمة الراسمالية اللتي استولت عليها وحولتها الى بزنس

  • ahmed

    يعطيك الصحة استاذ . لكن التاني ليس هو الحل. الحل هو في ابتكار طريقة جديدة في التفكير او لوغاريتم عقلي تمكننا من التعامل باريحية مع طوفان المعلومات والبحوث اللتي افرزته تكنوليجيات الاتصال الحديثة.منهج التفكير الديكارتي مع متانته اصبح مثل السلحفاة والارنب. العالم يحتاج الى مفكر مثل ديكارت ليرشد منتوجات بيل جيتز وستيف جوبز كما فعل هو مع انتاجات غوتنبرغ مخترع الة طباعة الكتب,لان هذا الامر يتجاوز عبقرية مخترعي البرمجيات, الامر يحتاج الى فيلسوف. عندنا لو كان بن نبي حيا لكان مرشحا لذلك.وفي الغرب للاسف هاته الطينة من المفكرين تكاد تنقرض وكان تجاوزتها الاحداث. لذلك اصدرت هاته الاكاديمية قالت اصبر تابع

  • محمد

    ملاحظاتك صحيحة حين نطلع على قائمة حاملي الدكتوراه وما أكثرهم حتى أصبح لقب الدكتوراه يتوج كل جاهل لمبادئ الدراسة حتى الثانوية منها.ألم يحمل هذه الشهادة بعض من كان موظفا أو وزيرا فنتساءل عنه متى درس لتحضيرها.وبعضهم لم ينل شهادة الباكلوريا وهو اليوم يقنن للجامعة.كنا ننعت حاملي الليسانس من العراق بكل سخرية وامتدت المهزلة اليوم لدكتوراه السربون.صحيح أن الكثير من شهادات الدكتوراه حصل عليها أصحابها بالنقل والتزوير ودفع الإتاوات في سوق الأنترانت لكن هل هذا يدفعنا إلى منع المجتهدين من إبراز قدراتهم العلمية؟دكتاتورية بعض المشرفين القاصرين لا يجب أن تمتلك ميدان البحث لضعفها المعرفي أمام سرعة الابتكارات.