أهمّ ركيزة لإعادة بناء الأمّة
إن إعادة بناء الأمة الإسلامية مرة أخرى بعد ما خرّب الاستعمار عامرها وتـجفف غامرها، أمر يحتاج إلى جهود مضنية. وليست الإعادة المنشودة شق شوارع تقوم القصور المنيفة على أكنانها، ولا تجميل شواطئ الأنهار والبحار وبث الأرائك المريحة حولها. كلا.. ولا هي نقل المصانع والآلات وتشغيل ألوف العمال فيها. إن ذلك -وإن مست إليه الحاجة- لا يعني بناء أمة تنفع نفسها إذا كان الغزو الأجنبي قد نجح في تخدير أعصابها وإماتة ضمائرها واستلال اليقين من أفئدتها والهدف العالي من ضمائرها!
ذلك أن الأمة تفتقر قبل كل شيء إلى العقيدة التي توقد نشاطها، والغاية التي تكدح لبلوغها، والحداء الذي يهون عليها مصاعب الطريق، والعزاء الذي يصبرها على لأواء الحياة. فإذا جفت هذه المعاني في أمة لم يغن عنها شيء ما، وهي صائرة حتما إلى إدبار.. إنني عندما أرى دبابة تسير في الميدان يعجبني هيكلها المتين وبناؤها الحصين، وأنظر إلى هذا الحديد المتشابك المتراكب وهو يتهادى وئيدا شديدا يطحن أمامه الصخر ويقذف باللهب فأقول: ما أروع هذا البرج وما أسرع فتكه في أجسام العدا. لكني -وأنا أهمس بهذه الكلمات- يعاجلني شعور آخر بالتريث والاسترخاء: إن المهم في قائد الدبابة، لا الدبابة نفسها. إن مصير المعركة معلق بالرجال الذين يملأونها، ووثاقة إيمانهم ورباطة جأشهم وطول صبرهم وبشاشة رجائهم، إن ذلك هو اللبنة الأولى في النصر. وعندما كنت أرى أبنية قصر العيني في القاهرة وألمح الأدوات والاستعدادات لمداواة المرضى، تأخذني الدهشة لضخامة هذا المستشفى ورحابة غرفه وكثرتها، ووفرة وسائل التمريض وأسباب الشفاء، ثم وذلك الجيش الكثيف من الأطباء والأعوان والخدم، وذلك المدد الدافق من النفقات المبذولة والمطالب الميسرة. ومع هذا المظهر المطمئن، فإن الفؤاد لم يكذب إذا أبدى قلقه وأسر وجله.
حدثني أولا: هل تتوفر مشاعر الرحمة وعناصر الأمانة؟ وهل ينضبط سير الأمور تلبية لنداء الواجب، وأداء لحق الجماعة، وحياطة لكرامة الإنسان؟ إنني أمر أحيانا بالليل قريبا من هذا المستشفى، فأتساءل: ترى أهناك عين ساهرة ترعى المرضى، أم عين زائغة لموظف شاب يبحث عن فتاة تطاوعه؟ إن الغزو الثقافي الأوروبي بذل جهوده كلها حتى يوجد شبابا لا إيمان له، شبابا لا يعرف الله فضلا عن أن يخشاه أو يتطلب رضاه. نعم. لقد ركّز الاستعمار ضغطه كله على القلوب أولا حتى تفرع من العقيدة، واستبد به الجنون وهو يخرب كل ما أودع الإسلام في القلوب من تقوى ورعاية. إنه مستميت في تكوين أجيال تضيع الصلاة وتتبع الشهوات، إنه مستميت في تكوين أمة تستثيرها الغرائز الدنيا، وتذهل عن معاني الأمور وتتبّع سفاسفها. وعندما يحقق هذه الأمنية يعلم أنه قضى القضاء المبرم على الأمة الإسلامية. فما قيمة ثقافة لا تعتمد على إيمان، ولا يحصنها خفق، ولا يشدها مثل أعلى؟ عندما سرق الاستعمار “الإسلام” من قلوب الشباب الذين طعموا من موائده وربوا في حجراته كان يعلم أنه سرق الوقود من خزان السيارة أو القطار. والشاب الذي لا عقيدة له يمكن أن يدفع بالأيدي إلى الأمام. بيد أنه لن يندفع من تلقاء نفسه، وهيهات أن يقطع شوطا أو يبلغ هدفا، ومن هنا نرى ألوف التلامذة من المسلمين كسالى وكذلك ألوف الموظفين، وألوفا أخرى من هنا وهنالك، إن الاستعمار الذي احتل البلاد الإسلامية منذ قرن أحدث ثقوبا شتى في صدورهم تسرب منها اليقين، وتسرب معه النشاط والإقدام. ومن المستحيل أن تنهض أمة من دون إيمان ما، إنه لكي تنهض أمتنا لابد من رد الاعتبار إلى هذا الدين الـمُهان. لابد من إعادة الاحترام إلى الإسلام الذي يتسلى أي وغد باللغط عليه والنيل منه. (من كتاب “كفاح دين”).