-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

إذا بُليت فابكِ بقلبك واستَتِر

سلطان بركاني
  • 1587
  • 0
إذا بُليت فابكِ بقلبك واستَتِر
ح.م

في مقال سابق عنوانه “اجعل الشّيطان يندم”، خاطبنا إخواننا الشّباب وذكّرنا أنفسنا وإياهم بأنجع السّبل التي تعين العبد المؤمن على ربح معركته مع النّفس والشّيطان، وأشرنا إلى أنّ العبد المؤمن المذنب ينبغي له ألا ييأس أبدا من رحمة الله، وألا يترك التّوبة مهما تكرّر منه الذّنب، وأنّ عليه أن يعالج إدمان المعصية بإدمان التوبة، لأنّ التّوبة تحفظ حياة القلب، وتمنعه إلف المعصية واعتيادها.

إدمان التّوبة، عمل صالح لا بدّ منه، لأنّ أخطر شيء على قلب العبد المؤمن أن يألف المعصية ويعتادها ويركن إليها، فربّما سوّلت له تلك المعصية التي اعتادها وأبى أن يتوب منها، الوقوع في معصية أخرى أكبر منها، وربما استهان بتلك المعصية فتصبح كبيرة ولو كانت قبل ذلك صغيرة، فلا صغيرة مع استهانة، يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “من سرّته حسنتُه وساءته سيّئته فذلكم المؤمن” (الترمذي وأحمد).. ولهذا، على كلّ عبد مؤمن غلبته نفسه على معصية من المعاصي ألا يترك التوبة أبدا، وأن يحرص على أن يبقى قلبه يكره تلك المعصية ويتمنّى الإقلاع عنها.

التوبة –أيضا- تمنع عن العبد المؤمن أن تحيق به عقوبات المعاصي في الدّنيا والآخرة.. فالله تبارك وتعالى قضى أن يعاقب من يصرّ على معصيته ولا يتوب، في الدّنيا قبل الآخرة، فربّما يخذله ويحجب عنه توفيقه فتسوّل له نفسه ويسول له شيطانه الانتقال من معصية إلى أخرى أكبر منها، حتى يصل به الأمر إلى المروق من الدّين، وكم من شابّ كانت نهايته الإلحاد بعد أن كان من المسلمين، والسّبب معصية اعتادها وأبى التّوبة منها.. ومن عقوبات المعصية أيضا الهمّ والغمّ الذي يجده العبد الغافل عن التوبة في قلبه ونفسه، ومنها أيضا الوحشة بينه وبين عباد الله المؤمنين، فيشعر أنّ النّاس كلّهم يبغضونه ويحتقرونه، ويجد في نفسه بغضا لكلّ من هم حولهم، حتّى تنتقل الوحشة إلى ما بينه وبين والديه وزوجته وأولاده.. ومن عقوبات المعصية أيضا ذهاب البركة من الوقت والعمر والرزق والصحّة، ومنها ثقل الطّاعة، حتّى إنّ صاحبها ليشعر كأنّ جبال الدّنيا وضعت على ظهره كلّما قام إلى الصّلاة، وكلّما أراد أن يفتح المصحف ليقرأ القرآن، لذلك تجده وهو في صلاته كثير الحركة ينقر صلاته كنقر الغراب، مسرعا يريد أن يسلّم في أقصر وقت ممكن.

ومن ثمرات إدمان التوبة والحرص عليها أنّ الله تبارك وتعالى يفرح بتوبة عبده كلّما تاب وعاد، ولو كان ذلك من المعصية نفسها.. يفرح سبحانه بتوبة عبده أشدّ من فرح رجل وجد ناقته الضائعة في الصحراء بعدما كاد يموت من العطش، ولله المثل الأعلى.. هو سبحانه غني عن عبده، لكنه لا يرضى له المعصية، لا لأنها تضره سبحانه -حاشاه- بل لأنها تضر العبد في الدنيا والآخرة والله لا يحب لعبده الضرر، بل يريد له الصّلاح والفلاح والنّجاة والنّجاح، ويحب له الطاعة وأعمال الخير لا لأنهاتنفعه –سبحانه- إنّما لأنّ العبدهو من ينتفع منها.. يقول سبحانه وتعالى في كتابه: ((إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُم)).. ويقول كما في الحديث القدسيّ: “يا عبادي! إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي! إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْت كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَته، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ. يَا عِبَادِي! إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلاَّ نَفْسَه”.

ومع إدمان التوبة ولزومها ينبغي للعبد المؤمن أن يسعى جاهدا لأن تكون معصيته التي أرهقته هي المعصية الوحيدة، وأن يحرص ما أمكنه على أن تبقى سرا بينه وبين الله، يتمنّى ويبكي بين يدي الله ويدعوه أن يعينه على تركها والتخلّص منها.. الشيطان يسعى دائما مع العبد ليجعله يتحدّث عن معصيته ويتباهى بها ويغري بها غيره، وربّما يأتيه فيقول له: “أنت تعصي الله خاليا ولا تعصيه أمام الناس، أنت ممن يخشون الناس ولا يخشون الله.. إذا لم تكن كذلك، تحدّث للنّاس عن هذا الذي تفعله، فإذا تحدّث للنّاس ربّما أتاه فأغراه بأن يفعل تلك المعصية أمامهم، لأنّ الشّيطان يريد للإنسان أن يخرج من ستر الله، ويبتعد عن رحمته.. يقُول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “كُلُّ أَمَّتِى مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهرة أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّه، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْه” ويقول عليه الصّلاة والسّلام: “من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله جل وعلا”.. معصية الخلوة ربما تكون معصية واحدة، لكنّ العبد إذا جاهر بها وحدّث بها النّاس ربّما أغراهم ذلك بفعلها، فتصبح سيئة جارية.

هكذا أخي المؤمن.. إذا عصيت الله سرا بضعف نفس، فتب إلى الله كلّما وقعت في المعصية، وإياك أن تألفها وتعتادها.. تب واستغفر واسأل الله أن يعينك على تركها، واعمل أعمالا صالحة تمحو بها تلك المعصية، وإياك ثمّ إياك أن تجهر بها.. إذا ابتليت بالتّدخين مثلا وغلبتك نفسك، فلا تستسلم وتترك المحاولة فيتحوّل التّدخين إلى كبيرة.. وأنت تعقد في نفسك النية على ترك التدخين، حاول أن تدخّن سرا متى ما أمكنك ذلك، لا تدخّن أمام النّاس وتتباهى أمامهم بمعصية الله فتغريهم بها، فربّما رآك أحد أبنائك فقلّدك، وربّما رآك شابّ فأعجب بعملك، فتنال وزره.. إذا أغرتك نفسك بالنّظر الحرام، ووقعت في مصيدة الشّيطان، فلا تحدّث غيرك بذنبك، ولا تغر غيرك من الشّباب بما رأيت، ولا ترسل لهم رابط المقطع أو الصّورة المحرّمة التي رأيتها.. اندم وتب واستر نفسك وادعُ الله أن يعينك على نفسك.. إياك ورفقاء السّوء الذين يزيّنون لك الجهر بأخطائك، ويستدرجونك خطوة خطوة لتتحدّث بما بينك وبين الله.. لا تطعهم ولا تصغ إليهم، ولا تصغ لأحاديثهم عن مغامراتهم وعن علاقاتهم وعمّا يشاهدون ويرون ويتابعون.

أخي المؤمن.. ربّما تقول إنّك تخشى بتستّرك أن تكون منافقا، فأقول لك: المنافق ليس هو من يقع في الذّنب بضعف نفس وهو كاره للذّنب متمنّ للتّوبة، إنّما المنافق هو من يقع في الذّنب راغبا مصرا غافلا عن التوبة، ويظهر للنّاس خلاف ذلك.. ولذلك فحديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا. أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا”.. هذا الحديث خاصّ بالعبد الذي يعمل الأعمال الصّالحة في العلن رياءً وسمعة، ويعمل الأعمال السيّئة في السرّ مصرًّا راغبا غير تائب.. أمّا العبد الذي يعمل الأعمال الصّالحة في العلن يرجو ما عند الله، ويقع في الخطأ سرا وهو كاره للخطأ متمنّ للتّوبة، فهذا لا يشمله الحديث.

كثير من الشّباب أصابهم اليأس والقنوط بسبب سوء فهم هذا الحديث، ومنهم من استسلم للشّيطان، لأنّه فهم من الحديث أنّ ذنوب الخلوات تمحق السيّئات وتمحوها، في كلّ الأحوال، وهذا غير صحيح دائما كما بينّا.. ذنوب الخلوات تمحو الحسنات عندما يخادع العبد نفسه وهو يظنّ أنّه يخادع الله، ويرائي بأعماله ويظهر الصّلاح وهو ليس بذاك.. أمّا العبد المؤمن الذي يخفي ذنبه ويتوب منه في كلّ مرّة ويتمنّى أن يتركه، فلا تمحى حسناته، بل تكون حسناته سببا لمحو ذنوبه وسيّئاته.. لكن رغم كلّ هذا الفضل من الله، فالعبد الذي يكون سرّه خيرا من علانيته، أفضل عند الله، لأنّ الله جلّ وعلا أحقّ من يستحيى منه وأحقّ من ينبغي أن يحسب الحساب لنظره واطّلاعه سبحانه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!