إستراتيجية الكيان والغرب في التوسّع والهيمنة
لتناول هذه الإستراتيجية بحيثياتها المختلفة، يحسن بي البدء في تناول أبعاد هذه الإستراتيجية عبر مسارها التاريخي، انطلاقا من النقطة الأولى التي بدأ يتنامى فيها التفكير الصهيوني، لإنشاء كيان سياسي يجمع شتات اليهود المشردين في جميع أصقاع الأرض، إذ لا يمكن فصل البدايات الأولى لتشكيل هذا الكيان عن سياقه التاريخي والغائي، إذ ظلّوا مشرّدين تائهين على وجه الأرض عما يزيد عن ألفي سنة، من غير استقرار في بقعة من الأرض كبقية الشعوب، لأن عقدة الاستعلاء التي تشكّلت لهم عبر فلسفة وهمية، غرسها في عقولهم الاضطهاد المهين الذي تعرّضوا له عبر العصور، بسبب طبيعتهم المشاكسة والمعاندة ومركزية الذات التي سيطرت على عقولهم، (شعب الله المختار)، هي من قوّى في نفوسهم غرائز القسوة والغلظة والجلافة وانعدام الرحمة بالغير، وأنشأ في نفوسهم مشاعر المقت والكراهية والبغضاء لكل ما ليس من جنسهم، من الأمم التي نزلوا بأوطانهم، فحقدوا على الجميع بما فيهم أنبياؤهم والصالحون منهم، وكل من يخالف أهواءهم ونزواتهم ومصالحهم.
هذا ما جعل الدول والحكومات والشعوب تنبذهم، وتطردهم من دوائر وجودهم ونفوذهم، ولم يقبلوا اندماجهم في أوساطهم، لعلمهم بمكائدهم ومكرهم وخبثهم ونقضهم العهود والمواثيق، وتطبُّعهم بصفات الغدر والخيانة في الأوقات العصيبة.
لقد رأى العالم اليوم، كيف نقضوا مواثيق الأمم المتحدة ومجلس الأمن واتفاقيات أوسلو والبيت الأبيض ومدريد، وتنصّلوا نهائيا من التزاماتهم الدولية والأممية بتأسيس دولتين متعايشتين، وقد شرّعوا مؤخرا في الكنيست عدم قبول تأسيس دولة فلسطينية، وهم يعملون بتشجيع من الغرب وعرب التطبيع المتصهينين على تنفيذ مشروع هذا القانون، بتدمير غزة وإبادة أهلها لإجبارهم على الخروج من أرضهم.
ومن المحطات البارزة التي سجّلت مواقفهم المخزية في الغدر والخيانة، ما فعلوه بالنبي محمد، صلى الله عليه وسلم، في غزوة “الأحزاب” حين غدروا به في ساعة حاسمة، وكانت قبائل منهم قد خانت وغدرت به من قبل، رغم المواثيق المغلّظة بينهم في الدفاع المشترك عن المدينة عند الاعتداء، وكذلك ما فعلوه بألمانيا في الحرب العالمية الثانية، حين تحلّلوا من ولائهم لها وهم مواطنون يحملون جنسيتها، بعدما رأوا ميزان الحرب انقلب إلى صالح الحلفاء، وأيّدوا بريطانيا على النازية، وكتب أحد زعمائهم بيانا أعلن فيه عن تحلّل اليهود من الالتزام بتأييد ألمانيا، ما جعل هتلر ينكّل بهم في المحرقة الشهيرة جزاء غدرهم وخيانتهم، وخطب خطابا شهيرا شنّع فيه بخيانتهم للشعب الألماني في ساعة مريرة.
وقد رأى العالم اليوم، كيف نقضوا مواثيق الأمم المتحدة ومجلس الأمن واتفاقيات أوسلو والبيت الأبيض ومدريد، وتنصّلوا نهائيا من التزاماتهم الدولية والأممية بتأسيس دولتين متعايشتين، وقد شرّعوا مؤخرا في الكنيست عدم قبول تأسيس دولة فلسطينية، وهم يعملون بتشجيع من الغرب وعرب التطبيع المتصهينين على تنفيذ مشروع هذا القانون، بتدمير غزة وإبادة أهلها لإجبارهم على الخروج من أرضهم، والإقامة في أي دولة عربية يشاءون، ومخطط الإبادة والتهجير قائم على قدم وساق، وهم يسابقون الزمن لتحقيق أهداف هذا المشروع الظالم، خشية أن تفوتهم هذه الفرصة النادرة، وتثور الشعوب فجأة على الأنظمة العربية الخائنة والعميلة، المؤيدة لصهينة فلسطين ومنطقة المشرق العربي.
وحين كانوا يفكرون في تأسيس كيانهم السياسي على أرض مغتصبة، طفقوا يتقرّبون من الحكومات الغربية بالمراسلات والتودّد والتوسّل، كيما يساعدونهم على تأسيس هذا الكيان الغاصب، ولمّا كان الغرب قد عانى من وجودهم في أراضيه دهورا طويلة، ورأى سيطرتهم شبه الكاملة على مراكز التأثير المالي والإعلامي والعلمي، وهي المراكز الحساسة التي تجعلهم -حين يصلب عودهم- ينشئون واقعا اجتماعيا وسياسيا جديدا، يثبون من خلاله على مقدّراتهم وتوجيه سياساتهم الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ويحوّلونها نحو الوجهة التي تخدم مصالحهم القومية والأيديولوجية والسياسية بما يساعدهم على التمكين والسيطرة على الحياة العامة في الغرب، فيعيثون فسادا فيه كما هي عادتهم، وينشرون القلاقل والفوضى ومظاهر الرذيلة.
وهذا النزق الفكري الذي يميز حياة اليهود، قائم على خيال وهمي استلهموه من عقائدهم وسردياتهم الفكرية والأسطورية، لاسيما وأنهم بارعون في اختلاق الأكاذيب والتفنّن في حياكة الدسائس والمؤامرات، مما جعلهم لا يثقون في أي أحد ولو كان من المقربين والحلفاء، مثلما فعلوه مع قميص أخيهم يوسف من قبل، وفعلوه مع ألمانيا في حربها العالمية، ويفعلونه اليوم من عمليات التجسس على حلفائهم الغربيين، في أمريكا وفرنسا والكيان العلوي وإيطاليا مؤخرا وما خفي أعظم وأكبر، للإيقاع بهم وببلدانهم التي استولوا على مفاصل القوة والتوجيه في أجهزتها المختلفة، وسينقلبون عليهم حالما تأتيهم السانحة، مثلما فعلوه مع أممٍ من قبل في الشرق والغرب، وفعله يهود الدونمة في تركيا بزعامة سبيكتا، حينما خططوا في الخفاء لإظهار إسلامهم وإخفاء يهوديتهم، من أجل السيطرة على الخليفة والخلافة، ولما حانت ساعة الصفر نفّذ مشروعهم الانقلابي كبيرهم مصطفى كمال أتاتورك.
وعلى نحو ما يفعلونه اليوم، من براعتهم في التباكي والتظاهر بالغبن لاستجلاب عطف الشعوب والحكومات والكيانات، وتفنّنوا في قلب الحقائق بالتلاعب بالكلمات والألفاظ لتبرير شناعة جرائمهم في غزة، كاختراعهم مقولة “الدفاع عن النفس”، وإلصاق كلمة “الإرهاب” بالمقاومين الفلسطينيين، أصحاب الأرض المغتصبة.
وكانت الخلافة العثمانية يوم الوقيعة تعاني من أمراضها النفسية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، بعدما تربّعت على الحكم ما يقرب من ستة قرون كاملة، فكانت تحتضر رويدا رويدا وتقترب من نهايتها المحتومة بلفظ أنفاسها الأخيرة، وقد تكالب على إسقاطها الغرب الصليبي ويهود الدونمة والعلمانيون من بقايا الروم اليونانيين والأمراء العرب، ممن تواطأوا مع بريطانيا لتمزيق أوصال الخلافة وإسقاط صرحها، فخرجوا على الخليفة العثماني في مخالفة شرعية واضحة، وأعلنوا التمرّد عليه وقاتلوه بعدما وعدتهم بريطانيا باقتسام كعكة منطقة المشرق العربي بينهم، مقابل قبولهم إقامة دولة يهودية “مسكينة” في فلسطين على حد قول أحدهم، وقد منحوا أحد الأمراء المؤسّسين عشرة آلاف جنيه إسترليني شهريا، مقابل موافقته على زرع هذا الكيان “المسكين” في قلب الأمة.
ومنذ ذلك التاريخ وبعدما انتقل مركز الثقل السياسي والمالي والإعلامي، من أوروبا العجوز إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وحينما أصبحت مزهوّة بنشوة الانتصار، والسيطرة على إدارة السياسة الدولية ومؤسسات الأمم المتحدة، واستولت قواتها العسكرية على الجو والبر والبحر، وأضحت لها قواعد عسكرية كثيرة وكبيرة منتشرة في البحار والمحيطات والبلدان الصديقة والحليفة، فلما استولت على العالم عسكريا وماليا وإعلاميا، وصار الدولار هو العملة المسيطرة على المعاملات المالية والاقتصادية والتجارية، وتحوّلت الطاقة إلى محرِّك فعلي للآلة الاقتصادية والحياة الاجتماعية والثقافية، وأخذت منطقة الشرق الأوسط تبرز إلى الوجود كمنطقة حيوية، وتتبوّأ المكانة الإستراتيجية في اهتمامات السياسة الغربية والأمريكية والعالم المصنّع، لما تزخر به من احتياطات ضخمة من مَكامن البترول والغاز، من هنا بدأ الاهتمام الغربي يتزايد لإبعاد طوائف اليهود من بلدانه وتهجيرهم إلى أرض فلسطين، ليتخلص من شرورهم أوّلا، ويصبحوا يمثّلون بارجة حربية متقدمة في بلاد العرب، لاستعمالها كبؤرة توتر ومنصة إطلاق دائمة، تقصم ظهر الأمة العربية، وتفرّق جمع العرب وتجعلهم أعداء متناحرين لا تقوم لهم قائمة أبدا.
وهذا ما عليه حالنا اليوم، حينما اختارت النظم الوراثية وتوابعهم من الانقلابيين، الانحياز إلى الغرب والكيان المغتصب، كيما يوفّرون لهم الحماية من ثورات شعوبهم، بعدما بقيت تجربة “الربيع العربي” ماثلة بين أعينهم، وأصبحت تقضّ مضاجعهم وتنغّص حياتهم، وباتت تلك الثورات تمثل كابوسا، يعكّر عليهم صفو الحياة، ويزعجهم في يقظتهم ونومهم.
وهذه الإستراتيجية الكبرى للهيمنة والتوسّع، حبكوا خيوطها بإتقان كبير، من أجل تحقيق مشروعهم الكبير، للاستيلاء على منطقة المشرق العربي، تحت وهم ما يسمى “إسرائيل الكبرى”، يتم تنفيذه على مراحل متدرّجة، وقد غيّروا التسمية بما أصبحوا يسمّونه (الشرق الأوسط الجديد)، وسياسة التطبيع التي فرضوها على العائلات الوراثية والانقلابيين، هي المرحلة ما قبل الأخيرة، في انتظار تعميم التطبيع على النظام العربي كلّه بالترغيب أو الترهيب، ثم ينهون المشروع بإدماج الكيان في المنظومة العربية، ويصبح عضوا في الجامعة العربية ورابطة العالم الإسلامي، في إطار ما يسمى “الدين الإبراهيمي”، وتصبح إسرائيل هي الحاكم الفعلي للأنظمة العربية، فإذا تمّ لها ذلك ستطالب باسترداد حقها التاريخي، في خيبر والمدينة وتيماء واليمن وأجزاء من سورية ولبنان والأردن ومصر وتركيا…إلخ.
وسيساعدها على تنفيذ مشروعها الكبير، الاستعداد الوراثي المتخلّق في جينات حكام المنطقة الجدد، لكون بعضهم منحدرا من جدات يهوديات مغربيات وإيرانيات ودادات إثيوبيات، ولكي تتحقق للكيان الغاية النهائية بالسيطرة المطلقة على بلاد العرب، وضعوا خطة ماكرة، وهي الترغيب في توسيع دوائر تزويج أبناء المسؤولين من اليهوديات الحسناوات الفاتنات، كيما ينجبون منهن سلالة يهودية، ينشئونهم على تشرّب عقائد اليهود، ويصبحون الحكام الفعليين للبلدان العربية، مثلما هو عليه حال بعض المسولين اليوم في أخطر البلدان العربية ممن هم في سدة الحكم، فأصبحوا يحاربون مظاهر الإسلام والعروبة والمقاومة، وينشرون الإلحاد والفسوق والفجور والرذيلة، وحين يتمكّن من السلطة النسل اليهودي الهجين، سيسلّمون بلاد العرب ومقدساتهم إلى الكيان مجانا.
وخطة غزوة “طوفان الأقصى”، لا ريب أنها من تدبير المخابرات الغربية والكيان، لإعطاء الذريعة لإبادة الفلسطينيين وتدمير مدنهم، ثم تهجيرهم من أرضهم كمقدّمة للتوسّع في الأراضي العربية، والمساعدات الأمريكية والغربية غير المسبوقة، هي البرهان على صحة هذه الفرضية، لأنه لا يمكن أن تحدث إبادة ودمار شامل أمام مرأى العالم، من غير غاية كبرى مخطّط لها في الخفاء، وإخواننا المقاومون وقعوا في الفخ الاستخباراتي الصهيوغربي من غير إدراك للخطة المدبّرة، وقد أشرت إلى ذلك مع الزملاء فور وقوع هجوم 7 أكتوبر 2023 مباشرة، ووقع ما حدسته بعقلي. وأخيرا أقول: إن الدول والثورات المصيرية لا تسيّر بالعواطف التي لا يستفيد منها إلا العدوّ فقط، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.