-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

إسقاط الرمزية الوطنية النوفمبرية في المستقبل 

بقلم: مراد برور
  • 418
  • 0
إسقاط الرمزية الوطنية النوفمبرية في المستقبل 

إن التحديات الكبرى التي تواجه وطننا تتمثل في بزوغ نجم الجزائر كقوة جديدة يستوجب نجاحها ولوج عالم الثورة الصناعية الرابعة التي تستند إلى الرقمنة، الجيل الخامس، الذكاء الاصطناعي، الحوسبة السحابية، إنترنت الأشياء، الشبكات العصبية، وفي المستقبل القريب الحواسيب الكمية.

لقد ترك لنا مليون ونصف مليون من الشهداء إرثًا عظيمًا، وطنًا زاخرًا بالثروات، بل قارة في حد ذاتها، بوابة إفريقيا إلى أوروبا، وبوابة أوروبا إلى القارة التي ستحمل لواء المستقبل، إفريقيا. لقد أورثنا هؤلاء الشهداء شعورًا عميقًا بالوطنية في قلوب شعبنا، وطنية صامدة، استطاعت تجاوز محن الماضي، وسنوات الألم في التسعينيات. أليس واجبًا أن نتعامل مع هذا الإرث بعقلية استشرافية، بذكاء، ومع هذه الثروة العظمى، بعزيمة ورصانة، لنفتح بذلك أبواب المستقبل؟

إن هذا الإرث هو، قبل كل شيء، أمانة مقدسة تفرض على المثقفين أو صانعي المعنى العمل على تضميد الجراح، وفتح آفاق إستراتيجية حقيقية لوطننا، وإعادة الأمل لشبابنا؛ إذ إنه، ما لم يحدث ذلك، وكما يتسرب الدم من الجرح، سيجدون أنفسهم مضطرين للذهاب بعيدًا، إما بأيديهم العاملة أو –والأكثر ألما– بعقولهم النابغة إلى آفاق أكثر استقبالاً. شبابنا يحتاج إلى الحلم، بعد أن فقد هو، بل والكثير من أبناء الشعب، معنى الحلم، كما قال صديقي طيب حفصي في نص له. كثير من طلابي يقولون إن طموحهم الوحيد هو عبور البحر، كونه الأفق الوحيد الذي يلمع في عيونهم العطشى بصدق للتفوق وإثبات الذات. فما عساني أجيب؟ الجواب الوحيد، ربما الأكثر نجاعة وأخلاقية –إن جاز التعبير– هو السعي بكل جهد إلى إسقاط الرمزية الوطنية النوفمبرية في المستقبل، وتجسيدها ضمن منظومة من الابتكار والتميز، وتنافسية الجامعات، والشركات الناشئة، والمؤسسات، أو بالأحرى اقتصادنا، والأهم من ذلك كله العدالة الاجتماعية والازدهار المشترك.

أ. تحديات القرن الجديد الاستراتيجية ورهانات الجزائر

لتحقيق ذلك، ينبغي وضع الذكاء والعلم على رأس الأولويات الوطنية، مع منح المكانة التي يستحقها حاملو المشاريع والمبتكرون. يجب تمكينهم من الازدهار والتدرُّج المشروع في السلم الاجتماعي ليكونوا شعلة مضيئة لوطنهم وللعالم. هذه هي اليوم أسمى تجليات الوطنية؛ تمكين من البروز بشكل قائم على العلم والابتكار والتميز والجهد المنتِج الذي سيمنح أمتنا أدوات قوتها المشروعة.

لقد كانت كوريا الجنوبية سنة 1961 إحدى أفقر دول العالم، وقادها حينها الجنرال المحنّك بارك تشونغ-هي، لتصبح اليوم قوة كبرى وقاطرة علميّة وتقنيّة للصناعة العالمية فعندما تبيع شركة آبل هاتفها آيفون X، تُصبّ في خزائن شركة سامسونغ الكورية الجنوبية 14 مليار دولار، وهي المناول والمنافس في آنٍ واحد!

ولنضرب مثالا آخر، يحتلّ مجمع هيونداي- كيا المرتبة الرابعة في الترتيب العالمي لصناعة السيارات، متفوقًا على فورد وجنرال موتورز اللذين كانا في مقدمة الترتيب سابقًا. لقد قدموا لنا مثالاً بارعًا من خلال إتّباعهم خطوات اليابانيين، ولم يترددوا في إقامة شراكات تقنية رائدة مع هذا البلد، رغم الذكريات المؤلمة المرتبطة به. وكان المستفيد الأكبر من هذا الشراكة هو الجامعات، الأساس الحقيقي والسر الكامن وراء المعجزة الاقتصادية لكوريا الجنوبية، فالقوة الابتكارية الهائلة لشركات الشيبول مثل سامسونغ، إل جي، دايو وغيرها وجدت أصلها وصلابتها في الجامعات الكورية الجنوبية، إذ إن الابتكارات التي تحققت في مجال الشاشات وأشباه الموصلات والتقدم الكبير في صناعة السيارات، وبناء السفن، والهندسة المدنية لم تكن لتتحقق لولا العلاقة العضوية القوية بين الجامعات والشركات.

وعلى خطى الكوريين الجنوبيين، بات من واجبنا أن نوفر لشبابنا آفاقًا حقيقية وقوية لتحقيق ذواتهم، وذلك من خلال الارتقاء باقتصادنا إلى مستوى معايير هذا العصر. لقد أصبحت مهمتنا التاريخية، نحن جيل اليوم، أن نفتح أمام شبابنا الآفاق التي تليق بطموحاتهم وإمكاناتهم الهائلة. وكما فعل أسلافهم من أبناء نوفمبر -وإن صغُر سن ديدوش مراد وبن مهيدي وحسيبة بن بوعلي- فمن حق شبابنا أن يصنعوا أسطورتهم الخاصة بهم ويدفعوا وطنهم إلى مصاف صانعي القرار، وغزاة المستقبل!

إن طلابنا وخبراءنا الذين غادروا ليسوا بمرتزقة، بل هم بعيدون عن ذلك. فهم يحملون الجزائر في قلوبهم ويعانون ألم الغربة. وأولئك الذين شتتتهم الظروف عبر العالم، في شركات مرموقة وجامعات مرجعية، لا يطلبون إلا فرصة خدمة وطنهم. إنهم يمثلون قوة يمكن أن تكون رافعة للنهوض ببلدنا. ويجدر بنا أن نمنحهم الفرصة ليؤدوا هذه الخدمة حيثما وُجدوا، وبذلك نستطيع تسريع عملية اللحاق بركب التقدم العلمي والتقني من خلال إتاحة الفرصة لهم لخدمة الوطن، مما يعزز قدرة الجزائر على التطور ويزيد من ازدهار شعبها وعظمة أمتها.

لطالما رددت هذه العبارة؛ إن الذكاء والوطنية هما الثروة الكبرى، وهما أهم مصدر طاقة متجددة للجزائر التي لم تدرك بعد أهميتهما، وتتوان في استرجاع مكانتها المستحقة في مصاف الأمم.

لذلك -ولا يحق لنا الخطأ- يجب أن نحدد النقطة المناسبة بوعي ونقوم بإسقاط طموحات وطننا بشكل مبتكر واستشرافي، وبجرأة وعزيمة، في عالم الغد الذي يتميز بوتيرة متسارعة من التغيرات المتزايدة التفاوت والفوضى. إن اتصال الجهات الاقتصادية الفاعلة فيما بينها في هذه “القرية الكبرى”، الذي أتاحته ثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال، أدى إلى تقليص المسافات والزمن، مما ترتب عليه عولمة العمليات الإنتاجية للشركات، وبروز شركات عالمية شاملة تغطي كل القطاعات الصناعية وحتى مجال المالية. ولقد أسهمت العولمة، هذا النمط الذي يجسد هذه التحولات الهيكلية، في زيادة الاعتماد المتبادل والتعقيد، وتفوّق الشبكات على الدول مع إضعاف الحدود وظهور نموذج جديد للسيادة والقوة.

يرافق هذه التغييرات تسارع في التقدم العلمي والتقني وتحولات تكنولوجية بوتيرة غير مسبوقة، متقدة، إذ تتمحور حول الرقمنة. ومن هنا يتعين علينا اليوم الأخذ بمسلّمتين: (أ) إن الاستقلال والسيادة يندرجان ضمن حالة ديناميكية متغيرة باستمرار وفي تطور دائم. ومن ثمة، تعتمد الدول على قوتها، وقدرتها على الابتكار، وتنافسية شركاتها وجامعاتها. (ب) الرقمنة أضحت ظاهرة متعددة الأبعاد، تهيكل كل مجالات الحياة. وعليه، ينبغي على الدول أن تسعى لتحقيق سيادتها الرقمية، التي ترتكز على التميز التكنولوجي والإداري لدى الفاعلين في القطاعين العامّ والخاص العاملين في الصناعة الرقمية.

وباختصار، إذا كانت سيادة الجزائر سنة 1971 تعتمد على قوة سوناطراك، فإنها بحاجة إلى الاعتماد اليوم على سيادتها الرقمية، ركيزة المستقبل، التي تقوم على الأداء، والتنافسية، والتميز التكنولوجي والإداري لشركة موبيليس، التي يتوجب عليها الارتقاء باستمرار إلى معايير التميز التكنولوجي العالمية، وبالتالي الإدارية (الجيل الخامس، إنترنت الأشياء، الذكاء الاصطناعي، أمن المعلومات لشركاتنا ومؤسساتنا، الحوسبة السحابية، إلخ)، إذ تكون موبيليس في الوقت ذاته أداة بيد الدولة لضمان النجاح في الثورة الرقمية وتكريس سيادتنا الرقمية.

إن نهوض وطننا مرتبط ارتباطًا عضويًا بانتقاله في مجال الطاقة والرقمنة، أي من خلال التميز لدى الأبطال الوطنيين، سوناطراك وموبيليس، اللذان أصبح لهما طابع سيادي لا ينبغي التقليل من شأنه. فهذان البطلان الوطنيان يتمتعان بكل خصائص القاطرات لخدمة الجامعات والشركات الناشئة الوطنية، ومؤسساتنا بشكل عام.

ب. هل هذه الأمة موجودة حقّا؟ 

أليس مكمن قوة الشجرة في صلابة جذورها؟ وكيف لنا أن نتحقق من ذلك، سوى أن نتذكر أنه في أوج العواصف، ورغم كل التوقعات، لم تُقتلع هذه الشجرة، لم تُجتثّ ولم تُدمَّر، بل خرجت أقوى من ذي قبل. إن مئة وثلاثين عامًا من الاستعمار كانت اختبارًا قاسيًا، وعشر سنوات من الإرهاب الأعمى والمدمِّر كانت جرس إنذار لمن ينكرون وجود الأمة الجزائرية، ويزعمون افتقارها للجذور التاريخية، ويستخفون بقدراتها الاستثنائية على الصمود التي صيغت على مدار آلاف السنين. إن أسوأ أشكال الاغتراب هي عدم القدرة على تعريف أنفسنا إلا بإجراء مقارنة مع الآخر، بينما تصرخ صفحات تاريخنا بالحاجة إلى بناء كياننا الجماعي على أسس متينة.

“لسنا نحمل الكراهية للشعب الفرنسي”، على حد قول شاعرنا المتبصر بشير حاج علي في إحدى قصائده الرائعة، مستلهمًا كلمات أراغون. وكيف يمكن بناء طموح للتفوق، للمنافسة، أو بالأحرى للقوة، على شعور ضعيف وموحش مثل الكراهية، والتطلع إلى الماضي بينما يدفعنا المستقبل إلى غزوه؟ إن الضرورة اليوم تفرض على بلدنا أن يتبنى رؤية استشرافية، متجاوزة للتقاليد ومتحدية لها، وأن ينظر بعيدًا إلى الأفق ويعمل على الفوز بمعركة المستقبل، وأن يكون في توافق مستمر، بل وسباق، مع التحديات الهيكلية للقرن الجديد. هنا فقط يكمن ضمان بقاء الأمة وازدهارها وقوتها.

تُرجم المشروع الوطني الذي حمله الأمير عبد القادر، تجسيدا له، عبر انتفاضات متواصلة منذ بداية الاحتلال الاستيطاني. فقد كانت هذه القوة الوطنية المستمرة تستمد مرجعياتها من تاريخ المقاومة المتجذر عبر القرون، ومن إرثنا الثقافي والديني، إذ كان الإسلام هو الرابط الذي لم شمل الأمة الجزائرية. ويكفينا أن نستحضر بطولاتنا، مثل الشيخ بوزيان، الذي صرخ سنة 1849: “لن يدخل الفرنسيون الزعاطشة، كما لن يدخلوا مكة”. نوفمبر ونهايته المجيدة هما نتاج طفرة نوعية قوية في المشروع الوطني. ساعد فيه انفتاح النخب على التحولات الجارية في العالم، وإمكانية اطلاعها على وفرة من الأدبيات الإستراتيجية التي تميز لحظات التسارع الكبيرة في التاريخ.

كانت الهجرة الجزائرية، بتفاعل دائم مع الجزائر العميقة، عنصرا مساهما بقوة، إذ مكَّنت من بروز عقول مستنيرة استلهمت الأفكار التحررية العظيمة من الثورة الفرنسية، وكومونة باريس (الثورة الفرنسية الرابعة)، والنضالات العمالية، وكذلك من التجربة المؤلمة للحرب التحررية الإيرلندية.

قدّم تقرير زدين التاريخي، الذي عرضه حسين آيت أحمد على اللجنة المركزية لحركة انتصار الحريات الديمقراطية سنة 1948، بأسلوب عبقري، المفاهيم الأساسية والمنهجيات التي شكلت الاختيار الاستراتيجي الرائد الذي كانت ستعتمده جبهة التحرير الوطني في مقاربة مبتكرة لحرب غير متناظرة، فكان الانغماس في النضالات العمالية، وفي اللغة والثقافة الفرنسية، هي “غنيمة الحرب”، وفقًا لتعبير الكاتب الكبير كاتب ياسين، المتأثر أيضًا بالأدب الإيرلندي لكل من جيمس جويس، والإيرلندي الأصلي ويليام فولكنر، وعنصرًا لا جدال فيه ساعد جبهة التحرير الوطني على تنظير وتكييف مبادئ الحرب غير المتناظرة مع الحالة الجزائرية، بل وابتكار أساليب جديدة، سنتطرق إليها لاحقًا.

لقد مكنت تلك التجربة نخبتنا من الاستفادة واستلهام الدروس من حرب الاستقلال الإيرلندية ومن “الكارثة”، حسب وصف آيت أحمد، التي رافقت استقلال ذلك البلد سنة 1921. وهي الأخطاء التي تجنبتها كلٌّ من جبهة التحرير الوطني والجبهة الوطنية لتحرير الفيتنام. ألم يكن “هو تشي منه” في باريس، غارقًا في النضالات العمالية برفقة عبد القادر حاج علي، مؤسس نجم شمال إفريقيا بعد خمس سنوات من استقلال إيرلندا؟

ولكن، للفوز بمعركة المستقبل، ألا يجب علينا أولًا أن نربح معركة الذاكرة؟ فلنبقَ دومًا على وعي بهذه الحقيقة: معجزات اليابان وكوريا الجنوبية والهند والصين وإيران، التي ننسى أحيانًا، قد بُنيت جميعا على أساس رمزي متين، وهو الشعور بالانتماء إلى أمة عريقة، غنية بثقافتها وتراثها الضارب في عمق التاريخ. ولتحقيق هذا، يتوجب علينا أن نكشف ونفكك الأسس التي تقوم عليها كراهية الذات، ذلك السمّ الذي خلفه في النفوس مستعمرٌ مهزوم ولكنه مع ذلك ذكي وبعيد النظر. ويمكننا أن نحدد ثلاث نقاط رئيسية، تُشَكّل محورًا لمنظومة من الشوائب والقيم الهدامة، هدفها تقويض الوعي الوطني الذي مكّن من صنع معجزة نوفمبر، واستبداله بكراهية ذاتية ما بعد الاستعمار، تُكبّل الكيان الوطني وتجعله قابلاً للوقوع في شراك التبعية.

تتمثل هذه النقاط الثلاث فيما يلي: 1- الأمة الجزائرية كيان حديث العهد، 2- فرنسا انتصرت عسكريّا على جبهة التحرير الوطني، 3- إدارة الجزائر بعد الاستقلال كانت فشلاً ذريعًا. هذه الأفكار الثلاث يتماشى بعضها مع بعض وتتغذى إحداها على الأخرى. والغرض من كل هذا هو تقليل شرعية الكفاح التحرري من جهة، ومن جهة أخرى، التأكيد على عجز الجزائريين الفطري عن حكم أنفسهم، مما يشير إلى أنه كان من الأجدر عدم منازعة النظام الاستعماري، بل السماح له بالاستمرار ولو في شكل جديد يرضي الطابور الخامس وأساسه من البرجوازية العميلة.

ينبغي على وطن ماسينيسا –هذا القائد الذي لا يزال ثراه في “الخروب” ينتظر أن يُزهر بالورود– أن يبرز أكثر عمق جذوره التاريخية، وكل ما في ماضيه النوميدي من ثراء رمزي وقدرة توحيدية. إن الجراثيم الذاتية القادرة على تمزيق وتدمير الكيان الوطني تتجلى بعناد غريب على يد مؤرخ فرنسي ذي مظهر لطيف، نصّب نفسه خبيرًا بالجزائر، ومحبوب في وطننا، الذي تغلب عليه السذاجة، بمساعدة بعض النخب الجزائرية، التي هي غالبًا مدانة بارتباطات معيّنة. والمثير للدهشة، أن هذا المنطق يعمل بحق! فكثير من الجزائريين يعتقدون بصدق أن جبهة التحرير الوطني خسرت حرب الجزائر، وأن أمتنا كيان حديث النشأة!

في عظيم سَماحَتِه، ذاك الجنرال الذي أعاد لفرنسا كرامتها سنة 1942 وجنّبها الجنوح سنة 1958، يُقال إنه منح الاستقلال للجزائريين بدافع من الرحمة –بعيدا كل البُعد عن المعقولية في هذا السياق– بينما كان جيشهم التحريري منهكًا، مهزومًا، يرتدي ثيابًا رثة، ولا يقوى على تقديم أي مقاومة! فأي منطق دولة يُمكن أن يبرر مثل هذه الافتراضات العبثية؟ هل هُزم الجزائريون ومن ثم أُبقوا على قيد الحياة بشكل غير مفهوم، ورفعوا إلى مرتبة أمة من قبل المُستعمِر السابق؟ يبدو أن الأمر ليس كذلك. يجب علينا التأكيد بكل وضوح: لقد قاتلنا وانتصرنا، ولسنا بحاجة إلى الضغينة أو الكراهية، حتى لو دُعينا إليها صراحةً من خلال تصرفات شخصيات ومؤرخين فرنسيين مؤثرين (من بينهم، دون شك، موالون لبعض الجيران المعادين بلا فائدة، أمثال برنار لوغان وآلان جويي، الجاسوس الذي بات يتاجر تجارًة مشبوهًة تسيء لوطننا وتفقده احترامنا) يمثلون بصورة أو بأخرى جزءًا من المجتمع الفرنسي.

إن حروب الأجيال الجديدة تُعمق وعي الشعوب بهدف إقناعها بوضعها الأصلي كعبيد. ويتيح الإنترنت فرصًا غير مسبوقة لكسر الإرادة، وإدخال عقد نفسية مقيدة، أشبه بسموم عقلية تُغرس في عقول الشباب. وواجبنا اليوم هو فضح هؤلاء الدجالين الزائفين، فالخطأ المكرر بلا رد مُضاد يتخذ شكل الحقيقة. بعد أكثر من ستين عامًا على استقلالنا، لا يزال هؤلاء السادة يُمعنون في محاولاتهم المستميتة، الواضحة تمامًا، لتشويه صورة الأمة الجزائرية ونتيجة حربها التحريرية الظافرة. هذا ما يُعزز مسيرة بلادنا ويُظهر كم أن تجربتها تثير القلق، وكم أن الخطر لا يزال قائمًا!

وأما فرنسا فهي أمة عظيمة تمتلك الموارد الأخلاقية وبُعد الرؤية اللازمين لبناء علاقة جديدة نوعا ما ومنفتحة على المستقبل مع الجزائر. ولا حاجة لها لدعم هؤلاء الحرفيين المنهمكين في إنتاج قناعة مشكوك فيها. وفرنسا هي أيضا، قبل كل شيء، وطن جان جوريس وفولتير، ووطن الجنرال دي بولاردير الذي استقال احتجاجًا على التعذيب والانتهاكات ضد الجزائريين، ووطن حاملي الحقائب، وسارتر، والمثقفين الذين وقعوا على بيان الـ121 ضد الحرب على الجزائر، ووطن شوفينمان، ذلك الوزير الذي استقال رفضا للحرب الإمبريالية التي كانت بلاده على وشك شنها ضد العراق.

هي أيضًا فرنسا إعلان حقوق الإنسان العالمي، وإن لم تكن بالضرورة فرنسا التنوير، التي لم يُضئ نورها، ولا ثورتها سنة 1789، أبعد من السواحل الجنوبية لفرنسا، هذا الحد الجديد، إذ كانت الإمبراطورية الرومانية تحدد هناك موطن “الهمجية”. يجب ألا نتجاهل أن فرنسا هذه، التي تضم من بين مواطنيها نحو ثلاثة ملايين جزائري، يجب ألا ننساها أبدًا في الأحكام التي قد توحي بها لنا تصرفات بعض الورثة الظلاميين لذاكرة بائسة تعود إلى حقبة فيشي. لا يمكننا التعميم، لأن هذه الدولة تستحق تمثيلًا أفضل من هؤلاء الحراس الغيورين والخجولين لذكرى استعمارية مغتربة، غير ملائمة، غير قادرين على تحمل نهايتها الحزينة وغير المجيدة.

يدرك الإستراتيجيون تمام الإدراك أن تفسير وطرح نتائج الحرب يُعدّ في حد ذاته فعلًا من أفعال الحرب، بل يمكن اعتباره الفعل الأسمى والمطلق فيها. وإذا استطعنا إقناع المنتصر في مواجهة مسلحة بأن نتيجة الحرب كانت لغير صالحه، وإذا انطلت عليه هذه القناعة، فإن النصر النهائي يعود لنا، حتى وإن كنا نحن المهزومين في المعركة. وفي غياب هذا العمل حول الذاكرة، وغياب الحداد و”التعويذات” (ألم تقم الولايات المتحدة بذلك بمساعدة كتابها وسينمائييها بشأن حرب الفيتنام؟)، ارتأى بعض الفرنسيين، على العكس، الخوض في هذه اللعبة ومحاولة تفريغ استقلال الجزائر من لبه الجوهري.

والحقيقة الأولى التي ينبغي البوح بها، دون المساس بكبرياء فرنسا –إن كانت الحقيقة، وهي فضيلة، تتعارض حقًا مع الكبرياء، وهو عيب إن لم نقل ذنبا– هي أن فرنسا قد هُزمت، وأنها خسرت حرب الجزائر. لقد أوردنا هذا في كتابنا، مستندين إلى الإستراتيجي الكبير كلاوزفيتز، إذ كان النصر حليف الجزائريين، وليس فرنسا، وإن كررنا القول مرارًا، بأن المجاهدين كانوا ضعفاء، وفي بعض الحالات مفككين، مقارنة مع 500.000 جندي من قوات الاستعمار الفرنسي.

والقصبة البطلة في الجزائر العاصمة كانت تحت سيطرة وحدات نخبوية أتت خصيصاً من الأدغال الفيتنامية لهذا الغرض، فهل كان لزاماً حقاً استقدام جنود النخبة من أقاصي البلاد لقمع شعب العاصمة الفقير والعظيم، ولو كُلّف ذلك ثمن الفقدان للروح والكرامة؟! يريدون إقناعنا أيضاً بأنّه ولأول مرة في التاريخ، يغادر المنتصر ساحة النصر بكرمٍ مبالغ، مسلّما للمهزوم أرضاً طمع بها، ومستعجلا إجلاء مستوطنة واسعة من “الأقدام السود” في ظروف فوضوية، مروّعة. بل يذهبون إلى حدّ القول إنّ فرنسا قد تخلّت عمداً عن أولئك الموالين الذين خانوا شعبهم وألقوا بشرفهم وذواتهم في خدمة المستعمِر، معرضين حياتهم للخطر.

فرنسا المنتصرة في حرب الجزائر؛ هذه الأكذوبة، قد لبست ثوب الحقيقة وأصبح لها أدب غزير يدعمها. للأسف، تُكتب رواية تاريخنا في غير الجزائر، وغالباً بين صفحات المستعمِر القديم. ويخبرنا كلاوزفيتز بأن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى، فهي فعل سياسي نهائي يحدث عندما لا يمكن تسوية مصالح طرفين إلا بالعنف. نقطة انطلاقها سياسية، وكذلك خاتمتها. الحرب لا تُخاض من أجل الحرب بحد ذاتها، بل لتحقيق هدف سياسي لا يمكن تحقيقه بوسائل أخرى، وهو في هذه الحالة استقلال الجزائر، وهو ما حققته جبهة التحرير الوطني، ولا يمكن إنكاره.

وتقاطعاً مع أفكار كلاوزفيتز التي ألهمت آيت أحمد، ذكر هذا الأخير بوضوح شديد: “الحرب أداة للسياسة، وأشكال الكفاح التحرري يجب أن تُقاس بمعايير السياسة، فقيادة هذا الكفاح هي السياسة بحد ذاتها، والمقاومة المسلحة تتحول إلى سياسة في مستواها الأسمى.”

وبحسب كلاوزفيتز أيضًا، فإنه خلال أي مواجهة مسلحة، عندما يدرك أحد الفرقاء أن السعي وراء أهداف الحرب لم يعد يبرر الخسائر العسكرية، والاقتصادية، والسياسية التي يتحملها، فإنه يتراجع عن المواجهة، ليصبح بذلك هو المهزوم، وليس المنتصر بأي حال من الأحوال. ألم يكن هذا هو حال فرنسا؟

وفي السياق ذاته، يضيف باسيل ليدل هارت، المنظّر البارز في الاستراتيجيات، بقوله: «النصر، بمعناه الحقيقي، يعني أن حالة السلم، بالنسبة للشعب المنتصر، تكون أفضل بعد الحرب مما كانت عليه قبلها. ولتحقيق هذا المعنى، لا يتحقق النصر إلا إذا كان بالإمكان تحقيق النتيجة بسرعة، أو إذا كانت الجهود الطويلة تتناسب مع الموارد الوطنية. يجب أن تتناسب الغاية مع الوسائل. وإذا افتقرت الظروف الضرورية لتحقيق هذا النصر، فإن رجل الدولة الحكيم لن يفوّت أي فرصة تتاح له للتفاوض على السلم.» وماذا فعل ديغول إذن سوى التفاوض من أجل السلم؟!

تعد حرب الجزائر من أبرز الصراعات غير المتناظرة، إذ وضعت أسسها النظرية وأهدافها ومبادئها التوجيهية في تقرير سنة 1948 للجنة المركزية لحزب الشعب الجزائري – حركة انتصار الحريات الديمقراطية، وبيان نوفمبر، ومؤتمر الصومام. يذكرنا ج. بود بأن «في الحروب غير المتناظرة، لا يرتبط النجاح بعدد القتلى بل بردود الفعل التي يثيرها الدمار.»

كانت الحرب حرب الضعيف ضد القوي، وهي الحالة الوحيدة في التاريخ التي نقل فيها الضعيف، ممثلاً في فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا، الحرب إلى عقر دار القوي الذي كان يُفترض أنه محصَّن. تمثّل الصراعات غير المتناظرة ثورة في فنون الحرب؛ فهي تقلب القواعد رأساً على عقب، كاسرة الخطية التي تميز الصراعات المتناظرة والحروب التقليدية، إذ لا يتجسد النجاح في مواقع السيطرة على الأرض ولا في الخسائر البشرية أو المادية، بل في التأثير على الرأي العامّ، والفوضى التي تسببها الحرب داخل الأنظمة التي تشكل القوة المعادية وتدعمها، سواء كانت اقتصادية أو تتعلق بالصورة العامة أو التماسك الاجتماعي أو الاستقرار السياسي. ألم تتفكك الجمهورية الرابعة في فرنسا؟ ألم تكن فرنسا على وشك الانفجار بينما كانت وحدات المظليين المتمردين تستعد للنزول في الشانزليزي؟ وفي ماي 1958، اضطرت فرنسا إلى استدعاء شخصية تحمل رتبة جنرال لتولي زمام أمور الدولة. تخلى رئيس الوزراء بفليملين عن منصبه، كما فعل الرئيس ريني كوتي، وأوكلت قيادة البلاد إلى رئيس دولة، عسكري بحكم موقعه، استمر الجميع في مناداته بـ«سيدي الجنرال».

لو حدث ذلك في مالي أو النيجر، ألم تكن الضمائر الحية لترفع أيديها تنديدا بحدوث انقلاب؟! والواقع أن ولادة الجمهورية الخامسة ليست سوى انقلاب، لكنه كان في الواقع خلاصًا للأمة الفرنسية، جاء استجابةً لحالة الفوضى التي كان سببها، شئنا أم أبينا، المقاومة الفعالة التي أبدتها جبهة التحرير الوطني ضد المخططات الفرنسية، وما نتج عن تلك المقاومة من عنف ضرب النظام الفرنسي في مجمله!

ورغم اجتهاد بعض الأكاديميين الفرنسيين في التنظير للمسألة، سواء داخل فرنسا أو في المنابر التي تتيحها لهم الجزائر، فإن هذا لن يغير شيئًا من الوقائع الثابتة.

في النزاعات غير المتناظرة، ليس لدينا جيشان يتواجهان على مسرح عمليات محدد، بل نرى فضاءً عملياتيًا يشمل كافة الأبعاد التي تتجلى فيها المواجهة. لذا يصبح المجال البشري مفتاح هذا النوع من الحروب، وكذلك المجال المعلوماتي أو «الفضاء المعلوماتي». لا يؤدي المجال الجغرافي أو الجوي الدور المحوري الذي يتميز به الصراع المتناظر. فـ«مركز الثقل» الذي تحدّث عنه كلاوزفيتز، وهو النقطة التي تعتمد عليها قوة الخصم، لا يُستهدف مباشرة هنا. لما؟ لأننا أمام إستراتيجية غير مباشرة تستهدف النظام ككل، وليس جزءا منه فحسب. يقول جاك بود: «الإستراتيجية غير المباشرة موجَّهة بشكل عامّ نحو النظام بأكمله، وليس نحو عناصر معينة منه.»

هكذا، تصبح الفوضى التي تلحق بهذا النظام، وليس السيطرة على المواقع، هي التي تمثل النصر. ويُدرك الثوار الذين يخوضون المعارك غير المتناظرة ذلك تمام الإدراك؛ فحرب الفيتنام مثال واضح على ذلك، إذ يُعترف بأن الولايات المتحدة سيطرت تكتيكيّا من دون أن تحقق النصر. ثم إن التواصل يؤدي دورًا محوريًا؛ فمن خلاله، يُسقِط الطرف الأضعف النزاع خارج ساحة المعركة المادية ويفرض على القوي ساحة معركة افتراضية تكون لصالحه، وهو ما يورط الرأي العامّ، والمنظمات غير الحكومية، والأمم المتحدة. وغالبًا ما تتأثر القرارات التكتيكية على أرض الواقع بهذا التواصل.

وكانت العملية الاستشرافية التي أطلقها زيغوت يوسف في الشمال القسنطيني في 20 أوت 1955 بمثابة قرار تكتيكي مميز لنزاع غير متناظر، وكذلك الشأن بالنسبة للهجومات على المواقع العامة من قبل وحدات جبهة التحرير الوطني، وإضراب الأيام الثمانية في الجزائر العاصمة بأمر من بن مهيدي، والذي كان ردًّا من جبهة التحرير الوطني على المناورات الدبلوماسية الفرنسية إبان مناقشة القضية الجزائرية في الأمم المتحدة. «من الخصائص الجوهرية التي يتميز بها النزاع غير المتناظر أنه لا يقوم على تحقيق التفوق بل على تحويل تفوق الخصم إلى نقطة ضعف.»

لقد ترك لنا مليون ونصف مليون من الشهداء إرثًا عظيمًا، وطنًا زاخرًا بالثروات، بل قارة في حد ذاتها، بوابة إفريقيا إلى أوروبا، وبوابة أوروبا إلى القارة التي ستحمل لواء المستقبل، إفريقيا. لقد أورثنا هؤلاء الشهداء شعورًا عميقًا بالوطنية في قلوب شعبنا، وطنية صامدة، استطاعت تجاوز محن الماضي، وسنوات الألم في التسعينيات. أليس واجبًا أن نتعامل مع هذا الإرث بعقلية استشرافية، بذكاء، ومع هذه الثروة العظمى، بعزيمة ورصانة، لنفتح بذلك أبواب المستقبل؟

كانت هذه التوضيحات ضرورية، إذ أرى أنه لا فائدة من إطالة النقاش حول مآل الحرب، بل وحتى حول مسألة الاعتذار التي أصبحت هامشية ما دامت الجزائر قد حققت النصر في هذه الحرب. الأهم هو أن نكشف زيف المحاولات الأكثر خفاءً التي يقوم بها بعض المؤرخين لإنكار ذلك، بل والزعم، في تناقض صريح مع المنطق، أن الأمة الجزائرية التي هزمتها فرنسا وُلدت فقط بعد الاستقلال، وأن شكلها الحالي هو نتاجٌ للهيمنة الاستعمارية. ومن الأهمية بما كان أن ننبّه إلى هذه الأمور، ذلك لأن أطفالنا يحتاجون إلى معرفة أصلهم، وأن حرب الاستقلال كانت أساسًا نتاجًا لأبطال مخلصين لم يسلط عليهم الضوء، كانوا في الأغلب من البسطاء، وأن الثورة التقطها الشعب، على حد قول بن مهيدي. ستظل هذه الحرب نموذجًا في فنون الحرب، مثل معركة ديان بيان فو، باعتبارها تقدمًا حقيقيًّا في فن القتال. والأهم من ذلك، أنها تُوِّجت بنصر لا جدال فيه، علينا أن ندافع عنه ونعززه كل يوم، ليس بالانطواء على الماضي، بل بالاستناد إليه والعمل على خلق معنى ينعكس في مستقبل أمتنا العظيمة، الجزائر. إنها مسؤولية تقع على عاتقنا تجاه شهدائنا وتجاه أطفالنا.

إذا كانت سيادة الجزائر سنة 1971 تعتمد على قوة سوناطراك، فإنها بحاجة إلى الاعتماد اليوم على سيادتها الرقمية، ركيزة المستقبل، التي تقوم على الأداء، والتنافسية، والتميز التكنولوجي والإداري لشركة موبيليس، التي يتوجب عليها الارتقاء باستمرار إلى معايير التميز التكنولوجي العالمية، وبالتالي الإدارية (الجيل الخامس، إنترنت الأشياء، الذكاء الاصطناعي، أمن المعلومات لشركاتنا ومؤسساتنا، الحوسبة السحابية، إلخ)، إذ تكون موبيليس في الوقت ذاته أداة بيد الدولة لضمان النجاح في الثورة الرقمية وتكريس سيادتنا الرقمية.

واجب الحقيقة هو السبيل الوحيد الممكن لإرساء علاقات هادئة وصداقة بين الشعوب. كم هو عدد الفرنسيين من أصل جزائري، وكم منهم يحمل في قلبه رابطاً عاطفياً قوياً مع الجزائر؟ كم من أبناء بوندي وسارسيل، وحي مينغيتس، أو الضواحي الباريسية في الدائرة الثالثة والتسعين، يحبون الجزائر، وطن جذورهم، بشغف، وهم على استعداد للتضحية بالنفس والنفيس من أجلها، تماماً كما يفعلون من أجل فرنسا، وطنهم أيضاً؟

إنّ لاعبي كرة القدم القادمين من فرنسا، ومعهم جماهيرهم، لا يكفّون عن إبلاغنا بهذه الرسالة. إن رفع العلم الجزائري بقوة في شارع الشانزليزي أيام انتصارات المنتخب الوطني لا يمثل إهانة لفرنسا، بل هو، بالنسبة لمن يستشرف المستقبل، إشارة مشبَّعة بالمعاني. يكفي أن نملك في باريس ليس القدرة فحسب، بل الصِّدق في قراءة هذه الإشارة. الجزائر، تماماً كفرنسا، تزداد ثراءً بهذا الرابط الثقافي والعاطفي، وهو رابط للأسف مهدَّد ومشوَّه بسبب بعض المفكرين، مهما بلغوا من اللمعان، ممن لا يزالون عاجزين عن استيعاب تعقيدات الوجود الإنساني، الإنسان الذي هو في ذات الوقت فاعل في التاريخ وموضوع له.

للفوز بمعركة المستقبل، ألا يجب علينا أولًا أن نربح معركة الذاكرة؟ فلنبقَ دومًا على وعي بهذه الحقيقة: معجزات اليابان وكوريا الجنوبية والهند والصين وإيران، التي ننسى أحيانًا، قد بُنيت جميعا على أساس رمزي متين، وهو الشعور بالانتماء إلى أمة عريقة، غنية بثقافتها وتراثها الضارب في عمق التاريخ.

في الوقت الذي تتفكك فيه في إفريقيا شبكات فوكار و”فرانكافريك”، تتجلى بوضوح فظاعة الروابط الاستعمارية في عريها التام، فهي مستمرة من خلال جهود حثيثة، على حساب ثلة متهالكة مع فرنسا المدافعة عن حقوق الإنسان، لكن مع ديكتاتوريين مشبوهين، وهذا على حساب نهب الموارد وإغلاق أي أفق للتنمية والازدهار لشعوب إفريقيا. إن هذه الخيارات الإستراتيجية تتعرَّض للطعن بعمق، وترفض بصورة لا رجعة فيها، من قبل شباب إفريقي غير معقد، متعلم وطموح للقارة التي كانت حتى الآن منكوبة. في الوقت الذي تمر فيه منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية بأزمة هيكلية تهدد قدرتها على البقاء، تتعرض أوروبا لتحديات حادة بفعل تداعيات الأزمة الأوكرانية. إن الاتحاد الأوروبي الذي كان يعاني من الضعف منذ أزمة كورونا، أصبح يواجه أزمة اقتصادية هيكلية تتجلى في جانب منها في التوسُّع المفرط، الذي وُضع في الأساس في إطار تفكير “مكندر” وتلميذه “زبغنيو بريجنسكي”، الذي يقوم على احتواء ظهور أوراسيا قوية تهدد القوى البحرية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى. كما أن هذا الضعف يتجلى أيضاً في الانحراف النيوليبرالي الذي أُعطي للمشروع الأوروبي، وهو في تناقض تام مع الرؤية التوجيهية التي رافقت مشروع مؤسسيه.

هل هُزم الجزائريون ومن ثم أُبقوا على قيد الحياة بشكل غير مفهوم، ورفعوا إلى مرتبة أمة من قبل المُستعمِر السابق؟ يبدو أن الأمر ليس كذلك. يجب علينا التأكيد بكل وضوح: لقد قاتلنا وانتصرنا، ولسنا بحاجة إلى الضغينة أو الكراهية، حتى لو دُعينا إليها صراحةً من خلال تصرفات شخصيات ومؤرخين فرنسيين مؤثرين.

أصبحت ألمانيا، “المريض المزمن في أوروبا”، بسبب ضعفها، تهدد العلاقة المعروفة بالثنائي الفرنسي- الألماني، وتعرّض منطقة اليورو للخطر. يجب على فرنسا، التي شهدت تصنيعا متدهورا على أسف الكثير من خبرائها، أن تعيد ابتكار مشروع جديد بعيداً عن النماذج النيوكولونية. مشروع لا يعتمد على “فرانكافريك” المتلاشية، بل على نمط جديد يستند إلى التزام صادق في اتجاه التعاون والتنمية المشتركة. في حين تسعى الجزائر، بحق، إلى البروز وتأكيد قوتها. وباعتبار تموقع الجزائر على الحدود الجنوبية لأوروبا، فهي مضطرة، وبتكلفة مالية باهظة، لدعمها، واحتواء الضغوط الفوضوية وانتشار عدم الاستقرار من جهتها الجنوبية، إذ أن انتماء الجزائر الإفريقي والمتوسطي، يشكل عمقها الاستراتيجي وقوتها الكامنة، مما يُبرز الضرورة الملحة لأوروبا لبناء شراكات إستراتيجية مع الأبطال الصناعيين الوطنيين.

كانت العملية الاستشرافية التي أطلقها زيغوت يوسف في الشمال القسنطيني في 20 أوت 1955 بمثابة قرار تكتيكي مميز لنزاع غير متناظر، وكذلك الشأن بالنسبة للهجومات على المواقع العامة من قبل وحدات جبهة التحرير الوطني، وإضراب الأيام الثمانية في الجزائر العاصمة بأمر من بن مهيدي، والذي كان ردًّا من جبهة التحرير الوطني على المناورات الدبلوماسية الفرنسية إبان مناقشة القضية الجزائرية في الأمم المتحدة.

إن أشعة شمس الجزائر الاستثنائية، ومواردها من المحروقات، فضلاً عن خبرتها الصناعية، وشبابها المفعم بالحيوية، تؤهّلها لتكون من بين رواد الانتقال الطاقوي والرقمي. إن الطاقة هي أساس كل طموح رقمي، والجزائر تمتلك هذه الموارد بكثرة. أليس من الأجدر، في هذا السياق الجديد، أن يكون حوض البحر المتوسط الغربي، جسرًا للتواصل بدلاً من أن يشكل حلبة يتصارع على ضفتها الشمالية صانعو المعاني، بواقع عدم التوازن الذي فرضه التاريخ بل وأكثر من ذلك الاقتصاد؟ أليس من الأجدر أن يتجاوز هؤلاء صراعهم العقيم، وأن يتحرروا في عقولهم من رواسب الماضي الاستعماري؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!