-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

إشكالية القيم في زمن متحوّل

بقلم: د. عابد حميان
  • 385
  • 0
إشكالية القيم في زمن متحوّل

لطالما شكّلت القيم مرجعية أخلاقية واجتماعية تَصوغ سلوك الإنسان وتضبط علاقاته ضمن منظومة متماسكة، تنبع من روافد متجذرة كالعائلة، والدين، والمدرسة، والمجتمع. غير أن الزمن الراهن، بتعقيداته وتسارعه، يفرض تساؤلا ملحّا: هل ما زالت القيم التي عُرف بها الإنسان في القرون الماضية تحظى بالثبات والتأثير؟ أم أن هناك تحوّلات جوهرية أصابت بنيتها، إلى حدّ التبدّل أو الزوال؟ هذا ما تدفعنا إليه مظاهر التبدّل العميقة التي نشهدها يوميّا في أنماط العيش، والتفكير، والتواصل، وصور النجاح والانتماء، مما يستوجب قراءة نقدية لوضع القيم في عصرنا.

جذور القيم ومصادر تخلخلها

ليست مفاهيم عائمة، بل هي نتاج تراكم تاريخي وثقافي، أفرزته مؤسسات المجتمع التقليدية التي كانت تمارس تأثيرًا متجانسًا على الأفراد. الصدق، الأمانة، التضامن، الاجتهاد، الالتزام… كانت قواعد سلوك وليست مجرّد شعارات. غير أن هذه المؤسسات فقدت الكثير من تأثيرها لصالح قوى جديدة فرضت نفسها على وعي الأجيال، وفي مقدِّمتها الإعلام الجديد، وشبكات التواصل الاجتماعي، ومنصَّات المشاهير.

لقد تبدّلت القيم، لا لأن الإنسان فقد أخلاقه فجأة، بل لأن مصادر التوجيه تبدلت؛ ففي حين كانت العائلة تُشكّل وجدان الطفل، أصبح المؤثر الرقمي يوجّه نظرته إلى العالم، وغدت الصورة المبهرة أكثر تأثيرًا من الكلمة الرصينة، وغدا الظهور بديلاً عن الجوهر، والصيت أهم من الإنجاز.

لقد تبدّلت القيم، لا لأن الإنسان فقد أخلاقه فجأة، بل لأن مصادر التوجيه تبدلت؛ ففي حين كانت العائلة تُشكّل وجدان الطفل، أصبح المؤثر الرقمي يوجّه نظرته إلى العالم، وغدت الصورة المبهرة أكثر تأثيرًا من الكلمة الرصينة، وغدا الظهور بديلاً عن الجوهر، والصيت أهم من الإنجاز.

قيمٌ جديدة أم قناع زائف؟

لسنا أمام اختفاء تامّ للقيم، بل أمام إعادة تشكيل مضطربة لها. مثلاً، لم تعد قيمة العمل تُقاس بثماره المعرفية أو الأخلاقية، بل بقدر ما يتيح لصاحبه من حضور بصري لافت. النجاح لم يعد بالضرورة مرهونًا بالجهد أو العطاء، بل بات يُختزل أحيانًا في فيديو قصير يجمع مشاهدات عالية، أو تصرف “جريء” يثير ضجة.

الأمر نفسه ينسحب على الخصوصية. في زمن الرقمنة، أصبحت الحياة الخاصّة مادة للعرض، والمذكرات اليومية تتحول إلى محتوى مشترك، والحدود بين الذات والآخرين تتلاشى باسم “التفاعل” و”الانفتاح”. من يختار الصمت أو الحياء يبدو خارج السياق، بل ويُنظر إليه بشيء من الريبة.

الإعلام بين التوجيه والتزييف

لم يعد الإعلامُ مرآة الواقع، بل صار في أحيان كثيرة مصنّعًا له. لم تعد مهمته نقل الخبر فحسب، بل اختياره، وتحديد زاوية النظر إليه، وتغليفه بقيم ترويجية خفيّة تُكرّس نمطًا جديدًا من الحياة: الفردانية المطلقة، التحلّل من القيود الاجتماعية، المظهرية، وتسليع العلاقات. وقد باتت المسلسلات والإعلانات والأفلام أدوات ترسيخ لهذا التحوّل القيمي، إذ يصوّر التفكك الأسري أو العلاقات العابرة كخيار حرّ، لا كأزمة تحتاج نقاشًا.

نحو وعي نقدي لاجتراح توازن جديد

ما نعيشه ليس انقراضًا نهائيًّا للقيم، بل أزمة في تحديد المرجعيات التي تُنتجها وتُوجّهها. القيم تتغير، نعم، لكنها لا تنقرض. التحدي الحقيقي لا يكمن في استعادة الماضي كما كان، بل في القدرة على التمييز بين التحوّل الإيجابي والتحلل القيمي، بين التحديث القائم على الوعي، والتقليد الأعمى لمظاهر براقة لا جوهر لها.

المطلوب اليوم هو بناء وعي نقدي يُفكِّك ما يُعرض علينا كحقائق، ويعيد مساءلة المعايير المتداولة، فلا ننخدع بكل ما يُروَّج له على أنه “عصري” أو “حرية”، من دون أن يكون حاملاً لقيمة إنسانية فعلية. كما لا يكفي أن نُدين الإعلام أو التكنولوجيا، بل علينا أن نعيد تثبيت البوصلة الأخلاقية في داخلنا، من خلال التربية، والتعليم، والنقاش المجتمعي المسؤول.

القيم ليست ترفًا

في زمن يموج بالتغيّر، تبقى القيم الحقيقية ضرورة لا رفاهية. هي ما يمنح لحياتنا معنى، ولأفعالنا معيارًا، ولتواصلنا البشري إطارًا أخلاقيًّا. لا يمكن للمجتمعات أن تصمد في وجه التحديات من دون قاعدة صلبة من القيم المشتركة المستوعبة لتحوّلات العصر، من دون أن تنفصل عن جذورها. فكما أن التقنية تتطور، يجب أن تتطور معها منظومة القيم بما يحفظ إنسانيتنا ويُحصّننا من السقوط في فوضى المعاني.

الرهان إذن ليس في الحنين إلى ما فات، بل في امتلاك أدوات نقدية تعيننا على اجتراح قيم جديدة نابعة من وعينا، لا مفروضة علينا من الخارج، تسع الجميع، وتصلح للجميع.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!