إغراق المجتمع في الغيبيات يرفع بورصة السحرة والرقاة!

ليس موضوعا جديدا على مُجتمعنا ولا غريبا على ديننا، ومع ذلك، تحوّل العثور على سحر في المقابر إلى حدث أثار الكثير من اللغط وأخذ أكثر من حجمه، وتحول إلى مصدر هلع وفزع، و”ترند” على مواقع التواصل الاجتماعي، وبات الكل ينتظر ظهور صورته علّه يكون من بين المسحورين. وحتى مع الإقرار بوجود السحر، غير أن تأثيره لا يرقى أبدا كما يروّج له، ولا ينبغي أن يكون شماعة يعلّق عليها الفشل والمرض، وإغراق المجتمع في الغيبيات يزيد من انتشار التخلف وهو الأمر الذي أكده مجموعة من المختصين والأئمة لـ”الشروق”.
يُواصل شباب وجمعيات خيرية، حملة تنظيف المقابر عبر مختلف ولايات الوطن، ومعهم يتوالى ظهور صور المسحورين والتي وُجدت رفقة بعض أشياءهم الخاصة مدفونة بالقبور، وعليها طلاسم وحروز غريبة وشيطانية، وانتشرت حالة من الخوف والهلع و”الوسواس” بين كثيرين، لدرجة انهيار البعض نفسيّا.. وفجأة تحوّل الجميع إلى مسحورين يُهرولون نحو الرقاة الذين حول العديد منهم الأمر إلى تجارة مربحة مع الترويج لخرافات وأفكار تتعارض مع الدين والعقل وهي أن الساحر يمكن أن ينفع ويضر ويميت…
ومن جهتها، كثفت المصالح الأمنية حملاتها ضد المشعوذين والسحرة، وألقت في ظرف قياسي على الكثير منهم عبر مختلف الولايات، متلبسين بجريمتهم.
“ترند” سحر القبور حجب قضايا مهمّة في المجتمع
وفي الموضوع، اعتبر الباحث والمختص في التكنولوجيات الحديثة، الدكتور عبد العالي زواغي، أن حملة تنظيف المقابر، تحولت إلى “ترند” على منصّات التواصل الاجتماعي، وما رافقها من ذعر وهلع، هو أمر “يعبر عن تحوّل كبير وعميق في المجتمع الجزائري، سواء ما تعلق بكيفية استخدامها أم حتى بطريقة تعاطيه مع مختلف الظواهر والقضايا، والتي باتت تنتقل من الواقع الحقيقي إلى الواقع الافتراضي بشكل آني وسريع”.
وقال زواغي، إن مواقع التواصل باتت تفرض نفسها كصانعة للرأي والاتجاه والسلوك في المجال الافتراضي “انعكس ذلك كله على واقع الناس وحياتهم الحقيقية.. ففي حين انتشرت بكثافة أخبار تنظيف المقابر وصور الأشخاص المسحورين، وانغماس المجتمع الشبكي في الجزائر بمثل هذه الأخبار، متناسيا قضايا مهمة حجبها هذا “الترند”، ومعها تحديات اقتصادية واجتماعية وتهديدات تواجها البلاد، في ظل واقع جيوسياسي مضطرب وفواعل خارجية متآمرة”.
الأمر مبالغ فيه وتم استغلاله..
ويرى المختص في التكنولوجيات الحديثة، أنّ موضوع سحر المقابر “لا يرقى ليكون حديث الساعة ويشغل الناس إلى هذا الحد الكبير والمبالغة فيه، الذي له بكل تأكيد محاذير دينية وقانونية وجب مراعاتها.. وحتى مع نية القائمين على مبادرات تنظيف المقابر الحسنة والمحمودة، التي يجب مرافقتها بخطاب توعوي وتحسيسي بعيدا عن التهويل والتعميم”.
وتأسف محدثنا، لكون الظاهرة، قادت كثيرين إلى ذعر جماعي بفعل العدوى التي تنشرها الشبكات الاجتماعية، لاسيما “إذا ركب الموجة أشخاص يبحثون عن تحقيق أعلى نسبة للمشاهدة الرقمية، حتى ولو تعمدوا عرض صور وفيديوهات مزيّفة”.
انتهاك الخصوصية زاد من حدة العداوات
وأكد زواغي، أن مواقع التواصل الاجتماعي، شكّلت ما يسمى “مجتمعات التأريخ المفرط”، فالأفراد اليوم منهمكون في تقييد أدق تفاصيل حياتهم وروتينهم اليومي، والاحتفاء بذواتهم بشكل مهووس جدا، من خلال سيل الصّور و”السيلفي”، وفقدت الخصوصية والأسرار الشخصية، قداستها، وهذا في الغالب أدى إلى انتشار المقارنات الاجتماعية السلبية بين أفراد المجتمع من مستخدمي الشبكات الاجتماعية، ما نتج عنه ظهور الكراهية والغل والحسد والغيرة، التي تتغذى عادة على ضعف الوازع الديني، الأمر الذي قد يؤدي بضعاف النفوس، إلى الاستنجاد بقوى غيبية مثل السحر لإلحاق الأذى بالآخرين.
وأضاف: “كل شيء أصبح مُتاحا في الفضاء الرقمي، فأي شخص بإمكانه الحصول وبسهولة على أدق تفاصيل الشخص المستهدف، من صوره وعنوانه والأماكن التي يتردد عليها ومواقيت خروجه ودخوله، وهو ما فاقم من ظاهرة السحر بشكل لا يُختلف عليه، بعيدا عن التفسير الديني طبعا”، ليخلص الدكتور زواغي، إلى ضرورة اعتدال الناس في التعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي، ومقاومة إغراءاتها الجارفة التي تضخم غريزة حب الذات وإظهارها للغير، وضرورة الاحتفاظ ببعض الخصوصية، وعدم الإلهاء بموضوعات قد تضره أكثر مما تنفعه.
أمراض نفسية تشخص على أنها سحر
وبدوره، يرى المختص في الأمراض النفسية، حسام زرمان، أن موضوع السحر تفاقم مؤخرا، وأصبحت كثير من الفئات تميل لتصديق الغيبيات بشكل أكبر، وقال: “كأطباء نفسانيين أصبحنا نعالج حالات يختلط فيها وسواس الشك مع التصديق بالتعرض للسحر، وهو ما يجعل الشخص يدخل في دوّامة الشك الدائم في الغير ويتجّه لقطع الأرحام”.
وذكر الطبيب النفساني، بأن كثيرا من الأمهات اللواتي يزرنه في عيادته لعلاج أبنائهن من حالات نفسية، يخبرنه بأن أبناءهم مسحورون.. !
والطريف في موضوع الساعة، بحسب زرمان، أن بعض الأشخاص خاب ظنهم عندما لم يجدوا صورهم ضمن ألبوم المسحورين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لأنهم متيقنون من أن مشاكلهم سببها سحر.
ودعا محدثنا، إلى ضرورة التوقف عن نشر الصور، وعدم حصر مشاكلنا في أسباب العين والسحر، التي تحولت إلى تجارة و”ترند”، ومثل هذه التصرفات ستصيب كثيرين بأمراض نفسية على غرار الوسواس القهري، الرهاب الاجتماعي، القلق العام والقلق الاجتماعي، وسواس الشك إذا تفاقم قد يتحول إلى مرض عقلي.
وأضاف حسام زرمان، على الشخص عدم إسقاط مشاكله على أسباب أخرى، وقال إن 90 بالمئة من الأمراض سببها عضوي ونفسي، وللهروب منها يلجأ أشخاص إلى تبريرها بالسحر بما يسمى في علم النفس العيادي بـ”الإسقاط” وهي آلية يلجأ إليها الفرد للهروب من مشاكله.
وتأسف محدثنا، لكون كثير من الأفراد ضيعوا سنوات من أعمارهم في دوامة الخوف أو الشك بإصابتهم بالسحر والعين، رغم قابليتهم للشفاء بالعلاج النفسي أو السلوكي.
“أنا مسحور” تنتشر في الأوساط التي تكثر فيها الإخفاقات
ومن جهته، أكد المختص في الفقه وأصوله الأستاذ فتح الله دبوزة، خلال منشور على صفحته الرسمية على “الفايس بوك”، أن “التهويل من أمر السحر وقدرات السحرة وإن كان يرفع الأسهم السوقية للرقاة إلا أن ذلك لن يكون إلا بتثبيت هذه القضايا في المخيال العام بما لا يتناسب مع حقيقتها وخطورتها الفعلية… وإغراق المجتمع في هذه العوالم “الغيبية” هو جناية عليه لا ترفع أسهم الرقاة إلا بالتناسب مع ارتفاع أسهم السّحرة… فمجرّد الترويج للأعداد اللامتناهية من الأسحار وتثبيت خطورتها واستعصائها في أذهان الناس، هو في الواقع ترويج للسّحرة عند طالبي أقصى ما يمكن من شرورهم ولو كلّفهم ذلك جميع أموالهم… في حين لو استيقن الناس ضعف الشيطان وخنوسه أمام المؤمن لمجرّد “وضوئه وحسن تحصّنه بمولانا العظيم جلّ جلاله، لما راجت سوق السحرة بالشكل الذي نرى…”
وأضاف المتحدث أن فكرة “أنا مسحور ” تنتشر في الأوساط التي تكثر فيها الإخفاقات والكسل والفشل في تحقيق الأماني،” وتنتشر فيها المشاكل الأسرية.. لا تعالج غالبا إلا بما يعرف بـ “العلاج المعرفي والسلوكي” وتصحيح أفكار الناس عن السحر والشيطان، أمّا إغراقهم في الرقى بشكلها الحالي فليس إلا مزيد إمراض للمجتمع… ولو اكتفى الرقاة بإحالة الناس إلى باب السماء يطرقونه بأنفسهم في أحوال ضعفهم التي هي أرجى لإخلاصهم، لكان ذلك أنسب لهدي السنة المطهرة، ثم لا يُلجأ إلى الرقية من الغير إلا بقدرها الذي لا تصبح معه الرقية مهنة خاصة…
الكثير من الأساليب التي يعتمدها الرقاة غير إسلامية
وأردف الأستاذ فتح الله دبوزة: “أدرك جيّدا أنّ جميع المحاولات المبذولة في سبيل تصحيح النظرة المجتمعية إلى قضايا السحر والرقية مآلها إلى الفشل على المستوى الاجتماعي وتأسف لكون الكثير من الأساليب التي يعتمدها الرقاة مصادرها غير “إسلامية”، وهي تشبه بحسبه إلى حدّ كبير العلاجات الشائعة عند غير المسلمين أو المبتدعة المنتسبين إلى الإسلام “مثل ڨناوة… أذية الجان بأنواع مخصوصة من المسك والبخور مما لا دليل عليه إلا ما يدعيه بعض الرقاة من فاعليتها، والاعتراض على هذا قائم بما سبق من أمر التجربة عندهم”.
وأضاف ذات المتحدث: “لا معنى لتكرار كلمات أو مقاطع مختارة من آيات القرآن العظيم من غير رعاية لتمام معانيها ولا انضباط بضوابط قراءتها.. فقد رأيت في مشاهد كثيرة من يكرر (إن الله سيبطله) لا يكاد يبينها، وآخر يردد (ثاقب ثاقب ثاقب) بما يجعل السامع يصرخ من مجرّد صوته وصراخه، وآخر يكرّر (اشفنتشّافي) بهذا الإدغام يقصد (اشف أنت الشافي)، مسرعا مدغما على هيئة لا يّتصوّر معها حضور القلب فضلا عن إخباته وخشوعه على ما يليق ممن يستمدّ إمداد المولى العظيم جلّ جلاله”.
رقاة صبوا الزيت على النار
ومن جهته، قال إمام وخطيب مسجد معاذ بن جبل ببلدية بئر مراد رايس بالجزائر العاصمة، تميم بن شطارة، إن السحر من أقدم العلوم في المجتمعات، وأشار إليها القرآن الكريم وقال بأنّ ما ظهر في الآونة الأخيرة من وجود صور مسحورة لأصحابها هو حقيقة لا مُكابرة فيها، ودفنها في المقابر بغية تقوية السحر.. ولكن سوء التعامل مع هذه الظاهرة هي التي يُخشى منها الفرار من شرّ إلى ما هو أشر منه، كبث الخوف في قلوب الناس وظهور الاتهامات الجارفة بلا برهان، والاعتداء على القبور والمقابر التي لها حرمتها في الإسلام، وظهور رقاة من الجُهّال زادوا الطين بلة، وصبّوا الزيت على النار”.
وذكر مُحدّثنا، أن بعض الرقاة يرجعون كل سوء يقع للشخص إلى تأثير السّحر، إما جهلا أو لسُوء قصد حبا للشهرة والمال، أما الرقية السليمة، بحسب مُحدثنا، التي فتح الله بها على يد من يشاء من عباده ما دام القصد لله والعمل على وفق سنة رسول اللّه ﷺ، تكون “بقراءة القرآن الكريم والأذكار النبوية الشريفة والنفث على المريض، مع حث المريض على الإستقامة والمحافظة على الوضوء والصلاة وقراءة القرآن، والبعد عن المعاصي والملهيات، ليتحصّن من كل شر”.
10 سنوات للمشعوذين والسحرة
وفي التفسير القانوني، يؤكد المحامي محمد مقراني، أنه أمام استفحال ظاهرة السحر والشعوذة، والتي لم تعد حكرا فقط على فئة الأقل علما ووعيا، فإن القانون الجزائري أضحى يشدّد على تجريم الترويج للسحر والشعوذة بأي وسيلة كانت لأن تهديدها أصبح خطيرا ويهدد استقرار وأمن المواطنين.
وأضاف المحامي مقراني، أنّ المشرّع الجزائري ومن خلال المواد 303 مكرر 42، وما تلاها في نفس القسم، نصّ على عقوبة تصل إلى 3 سنوات حبسا وغرامة مالية قد تصل إلى 300 ألف دينار مع تشديد العقوبة. وفي حال ترتب عن السحر والشعوذة ضرر جسدي أو معنوي، تصل العقوبة في هذه الحالة إلى 7 سنوات حبسا وغرامة مالية تصل إلى 700 ألف دينار.
وفي حال ما إذا تم المساس بحرمة الحياة الخاصة وشرف وكرامة الأشخاص والنصب والاحتيال عليهم، فإن العقوبة تكون أشد لتصل إلى 10 سنوات حبسا وغرامة مالية قد تصل إلى مليون دينار.
وأشار المختص في القانون، إلى أن المشرّع أقرّ في التعديلات الأخيرة بقانون العقوبات على مروجي هذه الجرائم بأي وسيلة كانت، خاصة وأنّ المشعوذين والدجالين يستعملون وسطاء للإيقاع بالضحايا وتسهيل عملية استدراجهم، قصد سلب أموالهم مقابل مكافآت على كل ضحية، وأضحوا يستعملون حتى وسائل التواصل الاجتماعي من خلال منشورات في مجموعات، تدعو ظاهريا إلى مساعدتهم، ولكنها شركيّة تهدف إلى السطو على أموالهم واستغلال حاجتهم.