-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

إلى أي مدى يصمد الفلسطينيون في وجه أمريكا؟

صالح عوض
  • 2050
  • 0
إلى أي مدى يصمد الفلسطينيون في وجه أمريكا؟

الحقائق التاريخية تختبئ أحيانا خلف ركام الواقع ومتطلباته وتصبح مجرد حكايات في ظل بروز تيار الواقعية السياسية.. ولكنها وفي لحظات تاريخية استثنائية حاسمة تعود إلى الحياة كأن لا شيء في المشهد إلا هي.. ويتبخر الوهم وتجميل الواقع وتطل الحقيقة التاريخية ليس سواها.. هذا جوهر العلاقة بين أمتنا والغرب وعلى رأسه الادارة الأمريكية.. فهل كشفت المواجهة عن أطرافها الحقيقيين؟ وهل انقشع ضباب التعمية؟ وإلى أي مدى يصمد الفلسطينيون في وجه أمريكا؟

لم يكن إعلان ترامب عن اعترافأ بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني إلا تعبيرا دقيقا عن وصول الصراع بين الغرب الامبريالي والأمة إلى نهاياته الكبرى.. فلقد كان السقوط المتواصل لقوى الأمة منذ سقوط غرناطة وعبر عدة قرون ينتهي بشكل منطقي وموضوعي إلى تتويج انتصاراتهم بإعلان القدس عاصمة لهم.. وهنا لابد من ملاحظة التغييرات الاستراتيجية على الخطة الغربية تجاه أمتنا.. فلقد استفاد الفرنجة من هزيمتهم في بيت المقدس على يد الناصر صلاح الدين الأيوبي، وكانت الفكرة الأساسية هي تلك التي تعني بوضوح أنه لابد من إسقاط كل ما حول فلسطين قبل الاعلان عن سقوطها نهائيا وقبل الإعلان عن الانتصار الغربي الاستعماري على الأمة.. على عكس سابق الحملات الصليبية التي توجهت مباشرة إلى فلسطين وقدسها، في حين ظلت قوى حقيقية كامنة في الأمة تمكنت من طرد الصليبيين.. وفي الموجة الغربية الاستعمارية الحديثة شنوا هجومهم على الأمة من كل الجهات وبالذات في المشرق العربي والاسلامي؛ فبعد أن أسقطوا الخلافة العثمانية وجزّأوا ديار العرب والمسلمين عمدوا إلى تخريب المجتمعات العربية في العواصم الكبرى اسطمبول والقاهرة وطهران بثقافة تبعية غريبة عن حسِّ الناس، ولتسلخ الناس من تاريخهم وأصالتهم وتُفقدهم حسهم بمصالحهم الاستراتيجية وتشكلت نخب تغريبية بأفكار معلبة كرست حالة الفوضى والتصارع الداخلي في مجتمعاتنا التي أصبحت جميعها في غرف إنعاش وتعيش بالأمصال.. 

من المؤكد أن الإدارة الأمريكية ستصعِّد في موقفها الاجراءاتي ضد السلطة وشخص الرئيس أبومازن وإنني أستبعد أن يقوم النظام العربي بتشكيل شبكة نجاة للسلطة وإسناد للرئيس الفلسطيني، بل لعل الكثيرين الأن يعدّون الجنازة وانتخاب المقصلة ويهيئون البديل.

وبعد تمكن المشروع الغربي الاستعماري من تكريس التجزئة قانونيا وسياسيا كانت خطوتهم الكبيرة أن انتزعوا مصر من سياق الصراع مع الكيان الصهيوني باتفاقيات كامب ديفيد التي جمدت دور مصر العربي نهائيا، ففقدت الأمة قوة مركزية في مواجهة المشروع الغربي، وبعد أن وصلوا إلى تفجير الصراعات الاقليمية الكبيرة، لاسيما بين إيران والعراق والتي لازالت تداعياتها في النفوس والواقع هجموا على أمتنا بموجة الفوضى الخلاقة وشرق أوسط جديد مباشرة بعد تسجيلهم احتلال العراق وتكسير جيشه وبعثرة مكوناته المذهبية والقومية.. فكان انهيار العراق بداية الانهيارات في سورية وليبيا والاهتزازات الأمنية في كثير من البلدان العربية.. هنا كان لابد من الاحتفال بالانجاز التاريخي بتحقيق الانتصار على أكثر أمة قادرة على إيقاف هذا التغول الغربي والجنون الرأسمالي..

قدرُ الفلسطينيين أنهم جاؤوا بجوار الأهداف الاستراتيجية الأمريكية وأن بلادهم استثناء ورمز للانتصار لأي فريق رأى ضرورة أن يكون هو صاحب السيادة والتسيّد.. فماذا هم فاعلون بعد أن انكشفت المواجهة على طرف يقف الرئيس الأمريكي بكل وضوح ومن خلفه زعماء الرأسمالية العالمية رغم ادعاءات بعضهم بغير الموقف الرسمي؟

الرئيس الفلسطيني أعلن أن الادارة الأمريكية لم تعد مؤهلة لكي تكون وسيطا ومشرفا على العملية السياسية.. وكرر موقفه بوضوح معلنا أنه قد خُدع مرات عديدة من قبل الأمريكان وأنه يقول: “لا وألف لا للتنازل عن القدس” وأظهر وضوحا في مواجهة الاتفاقيات بين السلطة والكيان الصهيوني، حيث أعلن أنها أصبحت بحكم المنتهية من خلال تصرفات الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة التي لم تبحث عن تسوية ولا تريد سلاما.. بحيث حسب توصيف الرئيس الفلسطيني أصبحت السلطة بلا سلطة والاحتلال الصهيوني أقل احتلال في العالم تكلفة.

بلا شك إن هذا الموقف كبير حتى لو جاء متأخرا.. فما كان ينبغي السير خلف الوهم الأمريكي وتصديق الأمريكان عشرات السنين فإن أي عملية تحليل وقراءة للسياسات الأمريكية وللخطوط الاستراتيجية التي تحكم تصرفات أي رئيس أمريكي تعني بوضوح أننا في مواجهة العدو الحقيقي.. ومن هنا تأتي صعوبة الموقف الفلسطيني الرسمي الذي تماهى في العملية السياسية وقدم كل إثبات بأنه ملتزم بها وأنه سيتصدى فلسطينيا لكل من يحاول إجهاضها.. صحيح أن البديل عن خط التسوية والعمل السلمي لم يحقق انجازا للفلسطينيين بل زاد تعقيدات الأمور عليهم في قطاع غزة إلى درجة كارثية، وهنا تثار أسئلة كثيرة ومتناقضة، ولكن لعل أهمها: هل لو كان الطيف السياسي الفلسطيني على وفاق يمكن أن تحدث كل هذه الانتكاسات؟

على ماذا يراهن الرئيس الفلسطيني؟ الجميع يعرفه بأنه ليس من الذين يتجاوزون الواقع في معطياته فما الذي يدفعه إلى اتخاذ موقف صريح وقوي إلى درجة أن يواجه الادارة الأمريكية؟ صحيح أن القدس رمز وواقع فلسطيني جوهري، وصحيح أن ترامب فاجأ الفلسطينيين بموقفه، إلا أن هذا كله يجيء في مرحلة الانهيار العربي التام، بعد أن أصبح النظام العربي إما تحت الانهيار والابتزاز أو حليفا استراتيجيا مقترحا مع العدو الصهيوني.

الرئيس الفلسطيني أعلن موقفا واضحا بأن الأمريكان لن يكونوا بعد الأن وسطاء ومرفوض أي دور لهم في الإشراف على عملية التسوية.. واجهت إدارة بوش ذلك باتهامه بنكران الجميل وبعدم الاحترام.. واتخذت الادارة الأمريكية إجراءات عملية ضد السلطة وضد وكالة الغوث للاجئين الفلسطينيين في إشارة لما تدفع إليه الادارة بالاتفاق مع قادة الكيان الصهيوني بإلغاء وكالة الغوث للاجئين الفلسطينيين.

لن تكون جولة الصدام بين الرئيس الفلسطيني والإدارة الأمريكية سهلة؛ فقليل هم الحكام العرب الذين استطاعوا أن يقولوا لأمريكا لا، ورأينا كيف تدمر أمريكا الدول، لكنها من خلال خطط تعمل على التدمير والتقدم فيما بعد لجني الثمار.

بعيدا عن البعد الأخلاقي الذي يمنح موقف أبومازن الأخير شهادة تاريخية تفسر الغامض في مواقفه فإن المسألة ايضا لها علاقة جوهرية بالبعد السياسي، فما كان من المقبول أن تستمر حالة الانتظار الفلسطيني بلا أي جديد.. فيما الكيان الصهيوني يفرض وقائعه على الأرض.

من المؤكد أن الادارة الأمريكية ستصعِّد في موقفها الاجراءاتي ضد السلطة وشخص الرئيس أبومازن وإنني أستبعد أن يقوم النظام العربي بتشكيل شبكة نجاة للسلطة وإسناد للرئيس الفلسطيني، بل لعل الكثيرين الأن يعدّون الجنازة وانتخاب المقصلة ويهيئون البديل.

مهما تكون نتيجة المواجهة فإن الموقف الرسمي الفلسطيني في جوهره يتشبث باليقين الفلسطيني وبالنصر الفلسطيني، حيث لا قدر لنا في المواجهة إلا الرباط والصبر والمصابرة حتى يأتي النصر، وحتى تلك اللحظة فليس سوى الشهادة والمقاومة ثنائية الفعل الطبيعي في مواجهة عدو ليس له عهد ولا ذمة.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يشعرون.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!