إيران لن تكرّر خطأ صدام والقذافي

لابدّ من الاعتراف في البداية بأنّ الضربة العسكرية الأولى التي وجّهها الكيان الصهيوني لإيران فجر الجمعة 13 جوان، قد فاجأتها وألحقت أضرارا متفاوتة بمنشآتها العسكرية والنووية وقتلت نحو 20 من كبار قادتها العسكريين و6 من علمائها النوويين على الأقل، وهو أمر بقدر ما يؤكّد وقوع اختراق استخباراتي خطير لم تستطع القيادة الإيرانية علاجه منذ اغتيال إسماعيل هنية بطهران في أواخر جويلية 2024 إلى اليوم، فإنّه ينمّ أيضا عن تراخ أمني غير مفهوم، ونقص في الفطنة واليقظة والاستعداد، وسهولة في الوقوع في الفخّ الأمريكي الذي اتّخذ المفاوضات أداة لتنويم الإيرانيين وإيهامهم بأنّ الخيار العسكري الصهيوني أو الأمريكي غير مطروح على الطاولة.
ومع ذلك، يحسب لإيران أنّها تعافت بسرعة من آثار الصدمة الناجمة عن فقدان كبار قادتها العسكريين، والتعطيل الإلكتروني لمنظومتها الدفاعية؛ إذ استطاعت في اليوم ذاته للعدوان امتصاص آثار الضربة الصهيونية وإعادة تنظيم صفوفها وتعيين قادة عسكريين جدد لخلافة القادة الشهداء، ثمّ الردّ بثلاث دفعات صاروخية كبيرة خلَّفت خسائر بشرية ومادية غير هيّنة، وما أخفاه الاحتلال من خسائر عسكرية أعظم بكثير، وقد تكرّر السيناريو ذاته في الليلة الثانية بتوجيه رشقات صاروخية نوعية شملت أهدافا اقتصادية هذه المرة.
وعندما تتمكّن الصواريخ الإيرانية من دكّ مقرّ وزارة الأمن الصهيونية ومواقع عسكرية أخرى، وتضرب معهد “وايزمان” للأبحاث العلمية الذي يوصف بأنه “العقل النووي” للكيان، وتلحق أضرارا كبيرة بالكثير من المباني بتل أبيب ومدن أخرى مثلما أظهرته الكاميرات بوضوح، وينزل نتنياهو إلى ملجأ ليعقد اجتماعا لحكومته تحت الأرض، ويغلق الاحتلال مطاره الدولي ويهرّب طائراته المدنية كلها إلى ثلاث دول أوروبية… حينما يحدث ذلك كلّه، فإنّه يعدّ نجاحا لافتا يحسب لإيران، ويؤكّد مدى التطوّر المستمرّ لمنظومتها الصّاروخية التي أضحت تمتلك صواريخ فرط صوتية يصعب رصدها واعتراضها، ليس من القبّة الحديدية الصهيونية وحدها بل أيضا من المنظومات الدفاعية للحلفاء وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما أفسد نشوة القادة الصهاينة وفرحتهم بـ”الانتصار” الذي قالوا إنهم حقّقوه في ضربتهم العسكرية الأولى فجر الجمعة.
اليوم بدأ العدوّ يدرك بأنّه سيدفع غاليا ثمن عدوانه هذا، وكلّما صعّد قصفه لأهداف عسكرية ونووية واقتصادية إيرانية، صعّدت إيران بدورها ردّها وجعلته أكثر شدّة وإيلاما، وقد يشمل لاحقا حتى مفاعل ديمونة النووي الصهيوني.
في الأيام الثلاثة الأولى للعدوان، أكّدت إيران قدرتها الكبيرة على تحمّل آثار الضربات الصهيونية الدقيقة وامتصاصها، وأنّها مستعدّة لحرب استنزاف طويلة مع العدوّ. وبالمقابل، فإنّ الاحتلال، الذي تعوّد على الحروب الخاطفة، لا يمكنه أن يستمرّ طويلا في هذه الحرب، وهو يتحدّث عن أسبوع إلى أسبوعين اثنين يفرغ خلالهما من تدمير المنشآت النووية والصاروخية الإيرانية، لكنّ صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية تؤكّد أنّ البرنامج النووي الإيراني لا يزال سليما ولم تلحق به إلا أضرار سطحية، في حين أنّ معظم المنشآت تقع في مناطق محصّنة تحت الأرض ويصعب تدميرها، وهذا الأمر يؤكّده خبراء ومتتبّعون كثيرون؛ إذ بإمكان إيران ترميم ما دمّر واستئناف برنامجها النووي، وكلّ ما يستطيع الاحتلال فعله هو أن يعطّله بعض الوقت، وهذه الحقيقة يؤكدها حتى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضمنيّا بدعوة إيران لاستئناف المفاوضات والقبول بعرضه لتفكيك برنامجها النووي سلميّا.
الاحتمال الأرجح الآن أن تتواصل هذه المعركة أياما أو حتى أسابيع عديدة، وحينما تتصاعد خسائر الاحتلال ويدفع أثمانا باهظة ويتأكّد، بمرور الوقت، من عدم واقعية القضاء بالقوة على البرنامج النووي الإيراني المحصّن تحت الجبال، فيستنجد صاغرا بحلفائه ليتوسّطوا لإنهائها ووقف خسائره، تماما مثلما فعل ترامب مع الحوثيين في اليمن بعد ستّة أسابيع فقط من المواجهات. من ناحيتها، وبعد أن تفرغ من تأديب الاحتلال وكسر عجرفته وغروره، قد تستأنف إيران المفاوضات مع أمريكا لرفع العقوبات التي أضرّت باقتصادها أيّما ضرر، ولكنّ من موقع قوّه هذه المرة وبشروطها التي لا تقبل التنازل عن حقّها في برنامجها النووي وفي تخصيب اليورانيوم، أما مسألة التفكيك هذه، فقد جرّبها من قبل صدّام حسين مع أسلحته الكيميائية، وما إن انتهى منها، حتى غزّت الولايات المتحدة بلاده في 2003 وأسقطت نظامه وقادته إلى حبل المشنقة، ثم جرّبها أيضا معمّر القذافي سنة 2004 مع برنامجه النووي الذي فكّكه بنفسه وسلّم مكوّناته لأمريكا، فكانت النتيجة مساهمتها في إسقاط نظامه في 2011 وقتله… ولذلك، لن تكرّر إيران مثل هذه الأخطاء السّاذجة والقاتلة مع أعداء لا يرحمون.