-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

افرحوا بالتائبين ولا تصدّوهم عن بيوت الله

سلطان بركاني
  • 379
  • 0
افرحوا بالتائبين ولا تصدّوهم عن بيوت الله

لعلّ من أكثر ما يشرح صدر كلّ عبد مؤمن في رمضان، أن يرى المساجد ممتلئة عند كلّ صلاة، ويرى عباد الله يجلسون بعد كلّ فريضة يتلون كلام الله، ويسمع لتلاواتهم دويا كدوي النّحل.. يرى صفوف المساجد تكتظّ بشبابٍ جباههم مطرقة ووجوههم مشرقة، يصلّون لله ويتلون كلام الله ويتعاونون في خدمة بيوت الله.. ربما تدمع عين النّاظر وهو يرى تلك المشاهد، ويوقن بأنّ الله لو أراد أن يهدي عباده جميعا لفعل سبحانه، ((أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جميعا))، لكنّه -جلّت حكمته- قضى أن يجعل الدّنيا دار امتحان، يختار فيها كلّ عبد طريقه، ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ)).

ما من عبد مؤمن صادق إلا وهو يفرح بكثرة التائبين، ويبش لهم بوجهه، ويدعو لهم بلسانه أن يتقبّل الله توبتهم ويثبّتهم على دينه ويزيح همومهم وآلامهم ويملأ قلوبهم أنسا وفرحا وسعادة.. هذا شأن كلّ عبد مؤمن يحبّ الخير لأمّته ولإخوانه، لكنّ هناك -مع كلّ أسف- من عباد الله من غرّهم الشيطان وسوّل لهم الانقباض والانزعاج من كثرة التائبين، بل إنّ منهم من يجرح التائبين بكلماته ونظراته، وقد يصل الأمر به إلى وصفهم بـ”جماعة الكونطرا”، والمنافقين… يرى شبابا كانوا بالأمس في أوكار المخدّرات واليوم يصلّون في بيوت الله، فيستهزئ بهم ويجرحهم بكلامه، ويستكثر عليهم أن يزاحموا غيرهم في الصفوف، وربّما قال لهم: “بدأتم الصلاة أمس، واليوم تزاحموننا في المسجد”! سبحان الله! ((أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ))؟!

شباب سئموا من حياة الضياع، وجاء رمضان فأحسّوا في أنفسهم برغبة في التوبة وبدء عهد جديد في حياتهم، وأرادوا أن يتركوا حياة الانحراف إلى حياة الاستقامة.. فروا من جحيم المخدّرات والأوكار والزّوايا المظلمة، ويريدون أن يتخلّصوا من الضيق الذي يخنق صدورهم ومن الهموم والآلام التي عشعشت في قلوبهم، ويتمنّون أن يجدوا أيد حانية تعينهم على الثبات.. لكنّهم ربّما يفاجؤون في بيوت الله ببعض “العباد” الذين يظنّون أنّ الجنّة خلقت لهم وحدهم، فيعبسون في وجوههم ويؤذونهم بكلماتهم! ووالله إنّ هناك شبابا تابوا إل الله، ثمّ عادوا إلى طريق الضياع بسبب نظرات المجتمع الذي لا يرحم! والله إنّ بعض المصلّين ليصدّون عن سبيل الله ويتسبّبون في بقاء كثير من الشّباب في طرق الغواية.. كثير من الشّباب ملّوا حياة حياة المخدّرات والشّهوات ونفوسهم تحدّثهم في كلّ وقت بالتوبة إلى الله، ولكنّهم يخشون كلمات النّاس الجارحة، يخافون أن يُستهزأ بهم ويُتّهموا بالنّفاق، ويسمعوا عبارات مثل: “هذا ابن فلان، كان وكان، وهو الآن يتظاهر بأنّه تائب”! من أناس يظنّون أنّ الله قد وضع مفاتيح أبواب التوبة بأيديهم، يرون شابا يصلّي في المسجد بعد أن كان يتعاطى المخدّرات، فيقولون: “هذا بالأمس كان يتعاطى المخدّرات وهو اليوم يصلّي!”، أو يرون فتاة مسلمة ارتدت الحجاب بعد أن كانت تسير في طريق خاطئ، فيقولون: “هذه كانت تفعل وتفعل، واليوم تتظاهر بأنّها مؤمنة”! هناك شباب كثر، قلوبهم تحترق وأرواحهم تبكي، ويريدون أن يتوبوا إلى الله، وفي دواخلهم أمل كبير بأنّ الله سيغفر لهم، لكنّهم يخافون أنّ المجتمع لن يغفر لهم، وأنّه سيظلّ يذكّرهم ويعيّرهم بماضيهم وينظر إليهم بسخرية واستهزاء!

فلماذا يصرّ بعض النّاس على إغلاق أبواب التوبة والرّحمة في وجوه الشّباب؟ أما قرؤوا قول الله –تعالى- في كتابه: ((وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا))؟ أما سمعوا قول الله –سبحانه-: ((وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ))؟ أيحسبون أنفسهم ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؟ أليست لهم ذنوب ربّما يكون بعضها كبائر تحبط أعمالهم؟ لماذا يتعاملون مع التائبين باستعلاء؟ أما سمعوا نهي الله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنّ))؟ أما علموا أنّ هؤلاء الشّباب ربّما يذرف الواحد منهم دمعة واحدة من قلب محترق خوفا من الله فيغفر الله ذنوبه كلها كبائرها وصغائرها ويبدلها حسنات، وفي المقابل يحبط عمل ذلك العبد الذي قضى عشرات السنوات وهو يصلّي، لأنّه تألّى على الله وزعم أنّه لا يغفر لهذا أو ذاك.. روى الإمام مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله –رضـي الله عنه- أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان! فقال الله تعالى: “من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك”.

هناك كثير من الشّباب سقطوا في مستنقعات المخدّرات ووقعوا في حبائل المعاصي والمنكرات، لكنّهم يحبّون الله ورسوله، ويتمنّون أنْ لو يوفّقهم لله للتّوبة، لكنّ الشّيطان يخوّفهم من الرّجوع ويقول للواحد منهم: كيف يقبل الله توبتك وقد فعلت وفعلت؟ ماذا سيقول النّاس عنك عندما يرونك في المسجد وهم يعلمون أنّك قد ارتكبت كلّ الموبقات؟ كان على عهد النبي –صلـى الله عليه وسلم- رجل اسمه عبد الله، جُلد في شراب الخمر أكثر من مرّة، فجيء به مرّة فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به؟ فقال النبي –صلـى الله عليه وسلم-: “لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا إنه يحب الله ورسوله”.

إنّ المفترض فينا والواجب علينا، أن نبشّر شبابنا التائبين بباب الله الذي يظلّ مفتوحا أمامهم ولو بلغت ذنوبهم أعالي السّماوات، ونربت على قلوبهم ونبشّرهم بفرح الله بتوبتهم، ونجعلهم يطمئنّون بأنّ الذّنب الذي يتوب العبد المؤمن منه لا يجوز لأيّ مخلوق أن يذكّره به أو يذكره عنه، لأنّ ذلك الذّنب تحوّل عند الله إلى حسنات: ((إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا))..

والله إنّها لكبيرة وذنب عظيم أن نغلق في وجوه عباد الله بابا فتحه الله، وحرام أن نعبِس في وجوه من يفرح الله بتوبتهم ويتلقّاهم برحمته.. شباب يتوبون إلى الله فيفرح الله بهم، وربما يباهي بهم ملائكته وهم يحثّون الخطى إلى بيته، ونحن نكشّر في وجوههم، ونؤذيهم بكلامنا.. ألا نخشى أن يعاجلنا الله بعقابه ويحبط أعمالنا؟ لو علمنا بشابّ مكث عشرات السنوات يرتكب الكبائر كلّها، ثمّ رأيناه في المسجد، فالواجب علينا أن نحسن به الظنّ، وننسى له ماضيه، ونعامله كما أنّه ولد لتوّه.. وقد يكون عند الله قد خرج من ذنوبه كلّها وأصبح كأنّه ولد في ذلك اليوم حقيقة.

هذا خير خلق الله، رسول الله –صلّى الله عليه وآله وسلّم-، حينما آذاه المشركون في غزوة أحد ورموه بالحجارة حتى سقط، وكسروا رباعيته وشجّوا وجهه وجرحوا شفته وسال دمه الطّاهر، فجعل يمسح الدّم عن وجهه ويقول: “كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيّهم؟”، فماذا قال الله له؟ أنزل عليه قوله –سبحانه-: ((لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُون)).. فيا الله! فعلوا كلّ هذا برسول الله –صلّى الله عليه وآله وسلّم- ومع ذلك يقول الله له: نَعم إنّهم ظالمون، لكنّ الأمر لله وحده، فيمكن أن يتوب عليهم، إذا تابوا بعد ذلك.

إلى شبابنا التائبين: لا يهمّكم أمر النّاس

أحبابي الشّباب.. يا من عدتم في رمضان لتبدؤوا حياة جديدة مع الله.. اعلموا أنّ الأمر كلّه لله، وهو سبحانه سيغفر ذنوبكم كلّها ويبدّلها حسنات إن أنتم صدقتم في توبتكم.. الله لم يعط مفاتيح جنّته ورحمته لأحد من خلقه، فلا تهتمّوا بنظرة النّاس وبما يقولونه: الجنّة والرّحمة بيد الله، والرزق والأجل بيد الله.. الله مولاكم الكريم يقول: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّه))، فلا يهمّكم ما يقوله النّاس.. الله الحنّان يقول: ((إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا* وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا)).. فلْيقل النّاس ما يشاؤون.

الله الكريم يفرح بتوبتكم ويتلقّاكم برحمته، يقول حبيبكم المصطفى –صلّى الله عليه وسلّم-: “لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ”.. الله يفرح بكم، فلا تهتمّوا بمن ينظر إليكم بازدراء أو سخرية.

إلى رواد المساجد: احتضنوا التائبين

وأنتم يا رواد المساجد: احذروا ثمّ احذروا أشدّ الحذر أن يكون أحدكم سببا في الصدّ عن سبيل الله.. شبابنا يكابدون واقعا مرا مريرا، ونحن يجب أن نمدّ لهم أيدينا ونترفّق بهم لعلّ الله يهديهم ويثبّت قلوبهم على التوبة والاستقامة.. مهما رأينا منهم من صدود وإعراض، ومهما رأيناهم يواقعون الصغائر والكبائر، فلا يجوز أن نيأس من توبتهم وهدايتهم وصلاحهم.. نحن أيضا لنا ذنوب ومعاص كثيرة نقع فيها، وربّما نرتكب الكبائر ونحن لا نشعر، أليست الغيبة والكلام في النّاس كبيرة؟ أليست شهادة الزّور كبيرة؟ أليس كتمان شهادة الحقّ كبيرة؟ أليس السكوت عن المنكرات كبيرة؟ أليس الكبر والغرور كبيرة؟ أليس أخذ أموال الغير كبيرة؟

أكثر شبابنا هؤلاء يكرهون تلك المعاصي التي يرتكبونها، ويحترقون من دواخلهم ويتمنّون أن يتوبوا إلى الله.. من رأينا منهم وضع أول خطوة على طريق التوبة، فلنأخذ بيده ولنُعنه ليضع الخطوة الثانية والثالثة.. مهما رأينا منه من التقصير، ولو رأيناه يدخّن، ولو رأينا الوشم على جسده، فنترفّق به، ولنتدرّج معه ولنصبر عليه.. يروى في الحديث الصحيح أن غلاما شابا أتى النبي -صلى الله عـليه وسلم- فقال: يا نبي الله أتأذن لي في الزنا؟ فصاح الناس به، فقال النبي -صلى الله عـليه وسلم- قربوه، ادن، فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: أتحبه لأمك؟ قال: لا، جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لابنتك؟ قال: لا، جعلني الله فداك. قال: كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم. قال: أتحبه لأختك؟ أتحبّه لعمّتك وخالتك، وهو يقول: لا، جعلني الله فداك، والنبيّ -صلى الله عـليه وسلم- يقول: كذلك الناس لا يحبونه.. ثمّ وضع رسول الله -صلى الله عـليه وسلم- يده على صدر الشابّ وقال: “اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه”، فخرج الشابّ ولم يعد شيء أبغض إليه من الزّنا.. انظروا إلى الرفق مع التائبين.. انظروا إلى التعامل مع المذنبين، ولو كانت ذنوبهم كبائر.

رمضان فرصة سانحة لبذل الهداية للنّاس، ودعوة المعرضين ومن طالت غربتهم عن الله. يقول بعض الدعاة في أوساط غير المسلمين: “كثيرا ما نشعر أن الناس في رمضان غير الناس. حتى إنك لتبذل في دعوة بعضهم في رمضان عشر ما تبذله في غير رمضان، ومع ذلك تلقاه أكثر إقبالا، وأسرع هداية”. هذا في أوساط غير المسلمين، كيف في أوساط المسلمين؟

إنّ من أحبّ الأعمال إلى الله بذل الهداية للنّاس ودعوتهم إلى التوبة والعمل الصّالح. يقول الله تعالى: ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين))، ويقول النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم-: “فواللهِ لَأنْ يهديَ اللهُ بكَ رجُلًا واحدًا خيرٌ لكَ مِن أنْ يكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ” (البخاري). فلنتاجر مع الله في شهر التجارة الرابحة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!