-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الأبعاد الإستراتيجية لقيادة أردوغان 

بقلم الأستاذ: العابد بكاري
  • 731
  • 0
الأبعاد الإستراتيجية لقيادة أردوغان 

يقودنا الفوزُ الكبير الذي حققه رجب طيب أردوغان في الرئاسيات الأخيرة بتركيا إلى التساؤل عن سرّ نجاح هذا الرجل ليكون نموذج القيادة الرشيدة؟ وما هي الأهداف الإستراتيجية التي يخطط لها؟ وما هي الثغرات التي يجب أن يتداركها مستقبلا؟

الكثير من الملاحظين يوعزون سبب نجاح أردوغان في الظفر بعهدة ثالثة رغم عديد التثبيطات إلى الأسباب الآتية:

1- قوة الكاريزما التي يتمتع بها أردوغان من أسلوب خطابة مقنع، وقوة حجة، وحنكة سياسية، وثبات على الهوية الإسلامية، فضلا عن حمله لمشروع اجتماعي حضاري إسلامي، ناضل من أجله منذ توليه منصب رئيس بلدية اسطنبول سنة 1994 تحت قيادة حزب الرفاه، ليؤسس بعدها حزب العدالة والتنمية، الذي شكّل نقطة تحول سياسي مهم كُلّل بحصوله على الأغلبية البرلمانية سنة 2002، ليشغل بعدها منصب رئيس حكومة سنة 2003. قدّم إثرها لتركيا إنجازات ضخمة ارتقت بها إلى مصاف الدول الرائدة.

2- المرجعية التاريخية التي يستند إليها الرجل في فكره المستلهَم من تاريخ أجداده الأتراك، الذين استلموا مقاليد الخلافة الإسلامية، بعد الإطاحة بالدولة المملوكية بمصر، حينها حوّل الأتراك عاصمة الخلافة من القاهرة إلى القسطنطينية، ليؤسسوا لخلافة إسلامية بتاريخ 1517م، دامت ستة قرون أنجبت خلالها أعظم القادة ومن أبرزهم محمد الفاتح؛ فاتح القسطنطينية، وسليم الأول الملقب بياووز، وابنه سليمان القانوني القاطع وبايزيد الصاعقة…. وغيرهم.

3- تمكّن الرجل في ظرف عشرين عاما من السلطة من تسجيل معدل نمو الناتج المحلي بنسبة 5.4 % بين 2002 و2021، كما زاد حجم الاقتصاد الكلي من 236 مليار دولار أمريكي في سنة 2002 إلى 906 مليار دولار أمريكي في سنة 2022، وقفز نصيب الفرد من الناتج المحلي من 4278.40 دولار سنة 2000  إلى 9661.20 دولار أمريكي سنة 2021، كما ارتفعت صادرات تركيا من 36 مليار دولار قبل عشر سنوات إلى 170 مليار دولار 2020، وتمّ بناء العديد من المنشآت القاعدية، وإطلاق قمرين صناعيين توركسات 5B-5A، والشروع في بناء المفاعل الثالث النووي في محطة أق قويو، ورفع الطاقة الإنتاجية في الصناعات الدفاعية إلى 80% سنة 2023، كالمقاتِلة من الجيل الخامس “قآن” وطائرة “حرجت” البديلة عن آف-16، مسيَّرة “بيرقدار قزل ألما”، المسيَّرة الحربية “بيرقدار TP2 أقنجي”، حاملة طائرات “تي سي جي أناضول”.. الخ. مما جعل الجيش يحتل المرتبة الثالثة بحلف النيتو، وساعد تركيا على الارتقاء من المركز الاقتصادي العالمي111 إلى المركز 16 (ضمن مجموعة العشرين الأقوياء في العالمG20).

4- نقل المجتمع التركي من عهد الانقلابات إلى عهد الجمهورية والتداول على السلطة بآلية الانتخاب الديمقراطي وحكم الشعب نفسه بنفسه. مما أكسبه محبة واحتراما من طرف شعبه الذي آثر الموت دونه خلال انقلاب 2016. فلأول مرة يسجِّل العالم أكبر نسب مشاركة في الانتخابات الرئاسية قدرت بـ%89.89 بتركيا، في حين سجلت نسبة المشاركة بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 2020 بـ%66.8. وسجلت بألمانيا سنة2021 نسبة 76.6%، وهذا يشكل تفوقا بارزا لديمقراطية تركيا على ديمقراطيات الدول الغربية العتيدة التي يعود تاريخها إلى القرن السادس عشر بداية عهد الثورات الأوروبية، كما يمثل دلالة قاطعة بوعي الناخبين الأتراك ومدى تقديرهم لحجم المسؤوليات. كما تمكّن أردوغان من تلقين العالم الغربي درسا في كيفية الحفاظ على صندوق الاقتراع، والتنافس مع باقي المترشحين بنفس الحظوظ، عكس ما فعل ماكرون حينما شيْطن منافسته لوبان بأنها يمينية متطرفة ومعادية للحجاب وللعرب والمسلمين. وكذا طعن الملياردير ترامب بالتزوير في فوز نظيره بايدن بالرئاسة سنة 2020، ما انجرّ عنه اقتحام مناصري ترامب الكونغرس، وأحداث شغب مشينة شكلت هزة عنيفة في بلد طالما تغنى بالديمقراطية وتشدّق بها.

5- نجاح أردوغان بانتهاج النموذج الإسلامي الديمقراطي دحض كل التهم والأباطيل اللصيقة بفوبيا الدين الإسلامي، التي كانت تنعته بـ”التطرف” وعدم قبول الآخر، وتقديمه في صورة مشرقة قوامها أنه دين ألفة ومحبة وتسامح، هدفه المؤاخاة بين الشعوب، والخيرية وخدمة الإنسانية جمعاء.

6- تأثر الجالية التركية بمشروعه ودعمها له، ووعيها الراسخ بالتحديات الإقليمية، وإيمانها بترشيح تركيا للعب أدوار الريادة، وهذا ما جعلها تصوّت له بقوة خلال الاقتراع الأخير بنسبة59،59%. فضلا عن تأثر مختلف الشعوب العربية التواقة للحريات بإنجازات الرجل ومواقفه البطولية مما أكسبه ودّا واحتراما منقطعي النظير.

7- امتلاك أردوغان محبة الشعوب الإسلامية والعربية التي أصبحت ترى فيه أحد صانعي تاريخها المشرق، ورمزا للعزة والإباء بسبب مناصرته للقضايا العادلة، مثل محاولته كسر الحصار المفروض على غزة، احتضانه لنحو ثلاثة ملايين سوري مضطهَد، معارضته للانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي رحمة الله عليه، وهي المواقف التي كادت أن تكلفه مؤخرا خسارة كرسي الرئاسة، لأن مثل هذه المواقف تثير حفيظة القوى الغربية.

يظهر جليا من خلال شخصية أردوغان الاستثنائية أنه صاحب رؤية وإستراتيجية بعيدة المدى، ويطمح إلى تجسيد جملة من المرامي التي نوجزها فيما يأتي:

1- المحافظة على تصدّر تركيا الريادة الاقتصادية، بسعيه الدؤوب لتطوير الاقتصاد، والوفاء بعهوده التي قطعها على نفسه بإعمار المناطق المنكوبة وإيواء المتضررين من الزلزال الأخير، الذين صوّتوا له بقوة بكهرمان مرعش.

2- كشفه لمخططات ائتلاف المعارضة المنضوي تحت عباءة الحزب الجمهوري القومي، وإضعاف شعبيتهم بتحسين الظروف المعيشية للمجتمع، وتخفيض نسب التضخم،  والتصدي للآفات الاجتماعية، ورفع قيمة الليرة التركية، والزيادة في النمو الاقتصادي.

3- الاستعداد لكسب رهان الانتخابات المحلية المزمع إجراؤها في مارس 2024 بتقديم مرشحين أكْفاء مثل وزير الداخلية السابق صويلو لشعبيته ومن هو في مستواه لاستعادة بلديتي اسطنبول وأنقرة، ولضمان تنفيذ المخططات المبرمجة، والمشاريع الاقتصادية الهامة.

4- ضرورة تحضير خليفة أردوغان لقيادة الحزب خلال المؤتمر العامّ القادم أواخر صائفة سنة 2023، بإعداد كوادر عبقرية لحمل المشعل ومواصلة المسار. وترسيخ السياسة الأردوغانية، بتأسيس نظام حكم مؤسساتي مدني راسخ، عصيّ على النخبة العسكرية، وغير قابل للمراجعة مهما تعاقب الحكام، والانتقال من مرحلة بناء المنشآت القاعدية إلى بناء قوة تركيا بترسانتها الدفاعية.

تمكّن الرجل في ظرف عشرين عاما من السلطة من تسجيل معدل نمو الناتج المحلي بنسبة 5.4 % بين 2002 و2021، كما زاد حجم الاقتصاد الكلي من 236 مليار دولار في سنة 2002 إلى 906 مليار دولار في 2022، وقفز نصيب الفرد من الناتج المحلي من 4278.40 دولار سنة 2000 إلى 9661.20 دولار سنة 2021، كما ارتفعت صادرات تركيا من 36 مليار دولار قبل عشر سنوات إلى 170 مليار دولار في 2020.

5- على اعتبار أن العالم يشهد انشطارا دوليا، تسعى تركيا كدولة محورية كما تنبّأ لها المفكر صموميل هنتنغتون في كتابه “صدام الحضارات” من خلال ترسانتها الدفاعية، وديمغرافيتها، وموقعها الاستراتيجي كنقطة عبور لتصدير القمح والطاقة للعالم الغربي، وامتلاكها لمضيقي البوسفور والدردنيل اللذين يربطان قارة أوروبا بقارة آسيا، للتموقع ضمن الدول العظمى إلى جانب الصين وروسيا، مما سيؤهّلها للقيام بأدوار محورية، من توطيد التعاون الاقتصادي وفتح الحدود وإقامة الأحلاف العسكرية مع الدول الإسلامية العربية تحقيقا لوحدة الإرادة الإستراتيجية للأمة الإسلامية، بعد بناء مناعتها الذاتية، والعودة إلى جذورها الأصيلة والتصالح مع ذاتها الإسلامية والتحرر من الفكر الثقافي الغربي، وهو ما ذكره د. محمد مختار الشنقيطي في دراسة له “شروق الشرق وغروب الغرب”.

على الرغم من سموّ الأهداف المسطرة إلا أن ثمة تحديات قد تعيق أردوغان في تحقيق طموح الشعب التركي والتي يجب التنبيه إليها:

1- على الرغم من احترافية وسائل الإعلام التركية، التي تساعد الحكومة على أداء مهامها بشكل حسن، إلا أن الرجل مطالَب بالتوغل رفقة مستشاريه في عمق وسائل التواصل الاجتماعي: اليوتوب، تيك توك، انستغرام، والألعاب الالكترونية… الخ، لمخاطبة الشباب على حدّ عقولهم واستمالتهم وكسب ثقتهم.

2- التنبيه لوجود ملايين من الشباب بكُبريات المدن كاسطنبول وأنقرة، هم ضحية إعلام فاسد ومنظومة تربوية مختلة، تروج لنموذج الشاب المتميع أخلاقيا، المنجذب نحو الفن السوقي وتعاطي المخدرات. والذي يستوجب الارتقاء به إلى مستوى الشباب الناضج، المدافع عن مصالح بلده. مما يستدعي وضع برامج تربوية وازنة، وإصلاح الجامعات المسرطَنة بفيروسات الرذيلة وتعاطي المخدرات، لاستعادة الدور المشرِّف لهذه المؤسسات.

3- التنبيه لخطورة مشكلة تواجد ستة ملايين لاجئ ومهاجر بتركيا بسبب الحروب والأزمات، نجم عنها انعدامٌ أمني، مما يستوجب المسارعة إلى حل المعضلة جذريا، استئصالا لمشاعر الكراهية والفكر العنصري، إما بالعودة الطوعية وفقا لبنود الاتفاقيات الدولية، أو نقل هذه الفئة إلى مناطق آمنة بالشمال السوري حسب توافقات مع الأطراف المعنية.

4- تصفير المشاكل وتجنب السياسات الدولية المنتجة للعداوات مع دول الجوار، وتركيز كل الجهود في فضّ المشاكل الاقتصادية، ولمّ الشمل التركي. مع العلم أن هناك الكثير من يفسّر مواقف الرجل عند تعامله أحيانا مع سلطة الاحتلال أو الرئيس السوري على أنها مظهر من مظاهر النفاق السياسي، لكن مقتضيات العلاقات السياسية، تفرض على القائد التعامل مع سلطات موجودة على أرض الواقع، من منطلقات الندّية، ومراعاة مصالح الأمة.

5- تحدي تعديل الدستور الذي يعود لأزيد من أربعين سنة، يعزز الحقوق والحريات، ويكرس تاريخ وثوابت وهوية الدولة الإسلامية، ويضمن التوازن بين السلطات.

تمّ بناء العديد من المنشآت القاعدية، وإطلاق قمرين صناعيين توركسات 5B-5A، والشروع في بناء المفاعل الثالث النووي في محطة أق قويو، ورفع الطاقة الإنتاجية في الصناعات الدفاعية إلى 80% سنة 2023، كالمقاتِلة من الجيل الخامس “قآن” وطائرة “حرجت” البديلة عن آف-16، مسيَّرة “بيرقدار قزل ألما”، المسيَّرة الحربية “بيرقدار TP2 أقنجي”، حاملة طائرات “تي سي جي أناضول”…

6- على خلفية تجذُّر الدولة العميقة ومقاومتها لكل الإصلاحات، فالرجل ملزَم بتولية الكفاءات أمثال هاكان فيدان وزير خارجية مبدع في إدارة الدفة الدبلوماسية من خلفية تمرُّسه بملفات المخابرات والتصدي لاختراقات الموساد، علي يرلي كايا متقن لإدارة الداخلية من منطلق درايته بكل الملفات الشائكة مثل الأمن واللاجئين، يوسف تاكين وزير التعليم ذو أفق ورؤية يهندس لتلقين الناشئة المبادئ الإسلامية وتعريفهم بتاريخ الأجداد والأمجاد دون التشويهات، بهدف التأسيس لميلاد الأمة التركية الأصيلة.

7- حتمية مراجعة بعض المعاهدات الدولية التي مرّ على توقيعها بعد الحرب العالمية الأولى نحو قرن بتاريخ 24/07/1923، ومن أهمها سيفر 1920 ولوزان 1923 بإدراج بنود تتعلق بتقاسم الحقوق بشكل عادل، وبأحقية التنقيب عن النفط، والسيادة على المضيقين البوسفور والدردنيل والحصول على رسوم مرور السفن، وتجسيد مشروع العصر قناة اسطنبول.

ينبغي التنبيه لوجود ملايين من الشباب بكُبريات المدن كاسطنبول وأنقرة، هم ضحية إعلام فاسد ومنظومة تربوية مختلة، تروج لنموذج الشاب المتميع أخلاقيا، المنجذب نحو الفن السوقي وتعاطي المخدرات. والذي يستوجب الارتقاء به إلى مستوى الشباب الناضج، المدافع عن مصالح بلده. مما يستدعي وضع برامج تربوية وازنة، وإصلاح الجامعات المسرطَنة بفيروسات الرذيلة وتعاطي المخدرات، لاستعادة الدور المشرِّف لهذه المؤسسات.

على الرغم من ملايير الدولارات التي صُرفت برعاية الدول الغربية لدعم المعارضة للإطاحة بأردوغان، وعلى الرغم من شراسة الإعلام الغربي، إلاّ أن هذا الأخير تمكن من الفوز لاسيما حينما بلغ المجتمع التركي أقصى درجات الوعي، وآمن بهذا القائد وأحبه لصدقيته، وإدراكه البعد الاستراتيجي المتعلق ببناء الأمة التركية، والارتقاء بها إلى درجات العلا، واستعادة ما يمكن استعادته من الحقوق المغصوبة، عكس ما ترنو إليه المعارضة من تفكير ساذج جعلها بوقا من أبواق الخصوم ومنفّذا لاستراتيجيات مرسومة سلفا بمخابر أجنبية، بهدف إضعاف الدولة وترويضها، ولكن الله يأبى إلاّ أن يتم نوره ولو كره العبيد المتزلفون. كما أن أردوغان بفلسفة حكمه استطاع أن يثبت للشعوب الإسلامية العربية أن الحرية واستقلال القرار الاقتصادي والتحرر من الفكر الغربي، ليس بالمستحيل بل هو متاح  لكل من توفرت له النية الصادقة والعزيمة لتحقيق ذلك، وهذا ما يفسر سرّ تهليل وفرح كل مسلم وعربي بفوز هذا الزعيم في أبعد قرى المعمورة. نسأل الله له الحفظ والسلامة من كل مكروه، وأن يلهمه سداد الرأي، وأن يقيد له البطانة الصالحة.

من الحِكم التي يرددها السلطان عبد الحميد الثاني: (ليس التاريخ من يتكرر بل الأخطاء هي التي تتكرر).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!