-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
الحلقة الأولى

الأبعاد الحضارية للهجرة النبوية

التهامي مجوري
  • 371
  • 0
الأبعاد الحضارية للهجرة النبوية

المراد بالأبعاد الحضارية، هي المقررات والمقاصد التي تهدف إلى كل ما يتلاءم والطبيعة البشرية ورساليتها في الحياة، فالإنسان لم يُخلق عبثا، وإنما خُلق لغاية معينة ولتحقيق أهداف جُبل عليها، تلبية لحاجاته وحفظا لبقائه وضمانا لخلوده، وفق مراقي ومراتب بحسب قدراته وإمكاناته وطموحاته ذات السقف العالي.

اختزل لقرآن الكريم هذه المعاني كلها في مهمتين اثنتين هما العبادة والعمارة، أطلق عليهما مصطلح العبادة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات 56]، ومصطلح العمارة (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) [هود 61]، وقد اهتدى الصالحون من الأقوام الذي فتح الله عليهم بالفهم للغاية من الوجود، فخاطبوا طواغيت عصرهم بما ينبغي أن تكون عليه الطبيعة البشرية في التفاعل مع الحياة بقولهم كما جاء على لسانهم في القرآن الكريم (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص 77].

وقد أطلق الحكماء والدارسون على هذه المهمة، فيما يسمى “فلسفة الحضارة والتاريخ” بالخبرة التاريخية أو التجربة التاريخية المتمثلة في تفاعل الإنسان مع الطبيعة.

والمتحضر إذن هو كل من كان متفاعلا تفاعلا إيجابيا مع الحياة، سواء من أجل تحقيق حاجاته أو حرصا بقائه أو سعيا لتخليد اسمه أو تخليد فعل يذكر به بعد الموت، وسواء في ذلك ما يقوم به هذا الإنسان من أعمال تهدف إلى تحقيق مصالح شخصية أو مصالح عامة؛ لأن كل تفاعل مع هذا الوجود يصبُّ في المصب ذاته الذي يهدف إليه الفعل الحضاري… فيخرج كل ما لم يصب في اتجاه المصلحة الإنسانية وغاياتها السامية.

في ظل هذا التفاعل العامّ المطلوب والمفترض من الإنسان الرسالي، تظهر الهجرة كفعل حضاري بامتياز، تُبنى عليه الكثير من المواقف والمقررات الاجتماعية والسياسية، في تلك المرحلة الحرجة التي كانت تبذر فيها بدايات التأسيس للرسالة الخاتمة، التي لا يقبل الله بعدها قولا أو فعلا أو معتقدا تقررت خارج إطارها.

وكانت الهجرة في السنة الخامسة للبعثة النبوية، قبل أن يعرف العالم حقوق الإنسان وحق اللجوء السياسي واللجوء الاجتماعي، وواجب الانتصار للمستضعفين، وتقرير مصير الشعوب.. لقد قررها النبي في البداية لبعض أصحابه ترغيبا وتشجيعا لهم على طلب اللجوء السياسي والاجتماعي من ملك الحبشة، فيما يعرف بالهجرة إلى الحبشة. “قال محمد بن إسحاق: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله عزّ وجل ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا ‌لا ‌يُظْلم ‌عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام” [ابن كثير، السيرة النبوية].

ثم بعد خمس سنوات كانت الهجرة النبوية التي قرر فيها النبي صلى الله عليه وسلم الهجرة، كما أمر أصحابه بذلك، ولكن هذه المرة ليس لمجرد طلب اللجوء السياسي والاجتماعي وإنما لأمر آخر أهمّ وأدق في مسيرة دعوته التي أرادها الله عامة للبشرية. (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة 40]، فكانت هجرة مختلفة عن الهجرة الأولى، التي كانت هجرة لبعض الصحابة، في حين كانت الهجرة النبوية هجرة جماعية شملت كل الصحابة، بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن لم يهاجر لم يعد من المجتمع المسلم الذي سيؤسَّس في المدينة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا ونَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَالَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الأنفال 72].

لم يكن سهلا على الصحابة ولا على النبي مغادرة أوطانهم بسهولة، خاصة في المجتمع العربي في تلك المرحلة الحرجة، التي لم يُعرف فيها مثل هذا الفعل إلا عند الصعاليك وقطاع الطرق الذين كانوا يخرجون من بلادهم ولا يلقون بالًا، لحب الوطن والبلاد والعشيرة، فأحدث بذلك معنى جديدا للخروج من البلاد ومغادرتها، طلبا لقيم أفضل وأسمى من التعلّق بالأرض الذي له أهميته أيضا… فقد خرج النبي صلى الله عليه وأصحابه مكرهين من مكة، حتى أن النبي لما بلغ مستوى معينا من الطريق إلى المدينة اشتاق إلى مكة فخاطبه الله قائلا (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [القصص 85]؛ بل إن هذا الخروج من مكة، لم ينسبه الله إليه وإنما نسبه إلى قومه الظالمين فقال (كما أخرجك قومك…)، فخروجه كان رغما عنه وليس اختياريا.

رغم أن أهل مكة لم يُعرف عنهم النفاق كما كان الأمر في المدينة، فإن واقع التدافع الذي شهدته الساحة المكية، كان مفتوحا على كل الاحتمالات، فالمشركون مستعدون للتعلق بكل شبهة تساعدهم على محاربته ومحاربة رسالته، لا سيما واتهاماتهم للنبي محمد بن عبد الله، كانت تخالف كل ما يقولون ويعرفون عن محمد وقد بلغت مداها، فقد كذّبوه وهم يعلمون صدقه، وخونوه ويعلمون وهو عندهم الأمين.

وعلى الرغم مما في هذه الهجرة من ثقل على النفس، إلا أن الغاية منها كانت أقدس وأقوى وأكثر أهمية، إذ  كانت هجرة من أجل الحفاظ على النفس وبقاء الرسالة وخلود الإسلام.

لقد كانت البداية بالهجرة إلى الحبشة، وقد كان لها من الأبعاد الحضارية الراسخة، ما يحفظ للإنسان قيمته وكرامته وحماية له من مظالم قريش يومها، استبعادا لما يمكن أن يحدث من زرع للفتن بين المؤمنين، إذ أن المؤمنين كانوا يعذَّبون ويعتدى عليهم، أما محمد صلى الله عليه وسلم، فكان في منعة من قومه بفضل حماية عمه له، فكان الأمر بالهجرة، حرصا على أصحابه وحمايتهم وحماية أعراضهم، وفي الوقت ذاته، حتى لا تتسرب إليهم من أي جهة كانت، أي تشويه قد يوقع بين المؤمنين ونبيِّهم.

ورغم أن أهل مكة لم يُعرف عنهم النفاق كما كان الأمر في المدينة، فإن واقع التدافع الذي شهدته الساحة المكية، كان مفتوحا على كل الاحتمالات، فالمشركون مستعدون للتعلق بكل شبهة تساعدهم على محاربته ومحاربة رسالته، لا سيما واتهاماتهم للنبي محمد بن عبد الله، كانت تخالف كل ما يقولون ويعرفون عن محمد وقد بلغت مداها، فقد كذّبوه وهم يعلمون صدقه، وخونوه ويعلمون وهو عندهم الأمين.

والهجرة النبوية كذلك في السياق نفسه، ولكنها كانت بأبعاد أخرى أعمق وأدقّ، وبأهداف لم تكن مكة مستعدة لاستقبالها، فاختار النبي محمد صلى الله عليه وسلم المدينة، لتكون محطة المرحلة الجديدة، وهي مرحلة ميلاد المجتمع والدولة والأمة.

وحتى لا ينسينا الغوص في تفاصيل الأبعاد للهجرة، لا بد من العودة إلى المصطلح ببعده الشرعي قبل كل شيء.

يتبع

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!