الأدب والحفاظ على الذاكرة
يُراهن الاستعمار وخاصّة الاستيطاني منه على عامل الزمن ليتمكّن من محو الذاكرة الجماعية للشعوب، وطمس معالمها التّاريخية والحضارية وإفراغها من محتواها الذي يُميّزها عنه، لتذوب هذه الشّعوب في قيمه وأفكاره وحتّى تاريخه وهويته وتبتعد شيئا فشيئا عن خصوصياتها، فيضمن بذلك عدم مقاومة الأجيال اللاحقة للاحتلال بعد فقدها لتميّزها عنه.
ويلجأ الاستعمار عادة في ذلك إلى هدم وحتّى ملاحقة وتجريم أيّ منظومة تعليمية سابقة له، أو سلطة محلّية موثوقة بين الأهالي، أو وسيلة إعلامية تواصلية قد تُشوّش على ما يخدمه من أفكار مستوردة يُريد زرعها وإفشاءها في المجتمع الذي أصبح تحت سلطته العسكرية. وهذا ما حدث عندما دخل الاستعمار الفرنسي الاستيطاني إلى الجزائر سنة 1830 إذ عمد إلى تعطيل الكتاتيب ومنع النّاس من مواصلة التّعليم، ليُشيع الجهل في صفوف الشّعب الجزائري فيسهُل التّحكّم به، وتنطفئ بذلك جذوة المقاومة، إلى أن اهتدت جمعية العلماء المسلمين لفكرة تأسيس المدارس الحرّة ونفي وجود أيّ صلة بها، فكوّنت الجيل الأوّل الذي يحمل المبادىء العربية الإسلامية في تمايز عن المستعمِر الفرنسي مكّنه بعدها من تفجير ثورة التّحرير الوطني بعد صقل سياسي مهمّ استفاد منه هذا الجيل على أيدي روّاد حزب الشّعب الجزائري.
وقد أدّت الجرائد التي كانت تُصدرها جمعية العلماء المسلمين إبّان الفترة الاستعمارية ومنها: المنتقد، الشّهاب والبصائر.. دورا مهمّا في توعية الشّعب الجزائري بهويته وتاريخه وذاكرته الجماعية المنفصلة تماما عن المستعمِر رغم مرور نحو 100 سنة على الاحتلال الفرنسي الاستيطاني، فكانت مقالات شيوخ الجمعية ومفكّريها الحامي الوحيد للذاكرة الجزائرية التي تعرّضت لشتّى أشكال الإقصاء والتّشويه حتّى بدأت تبرز تياراتٌ سياسية اندماجية تقبل وصف الجزائريين بـ”الفرنسيين”.
ومن هذه التجربة الجزائرية الحديثة، يُمكننا أن نستنتج الأثر الإيجابي الذي تضطلع به الكتابة عموما والأدب خصوصا في نشر الفكر التّحرّري والمستنير وفي تجذير ملامح الهوية الوطنية وقيم الشّعوب من خلال إبراز وتمجيد تاريخها المشترك وتنشيط ذاكرتها الجماعية، فالأدب بصفته إبداعا إنسانيا لا يُمكنه أن ينأى عن جذور هذا الإنسان وعمّا عايشه أسلافه وقرأه وتأثّر به، وفي الوقت ذاته أيضا يُعدّ الأدب والإبداع رصدا لكلّ صغيرة وكبيرة عايشها الكاتب، ومن ثمة توثيق لها ممّا يُساهم حتما في الحفاظ على ذاكرة الشّعوب.
يُمكن للأدب أن يُساهم بفعالية في إنعاش الذاكرة الجماعية وإحيائها وتوثيقها وترسيخها، ممّا يُساعد في تمتين الهوية والوحدة الوطنية، وجعلها تتمايز عن الهويات الأخرى المحيطة بها، المسالمة الصديقة أو العدائية الاحتلالية التي تُريد أن تطمسها وتحلّ محلّها، فيُعطي الأدب بذلك زخما لهذه الهوية الأصلية التي ترسم الذاكرة معالمها وملامحها الجميلة والعريقة، فيدفع الأدب بذلك في اتّجاه حبّ الانتماء إليها والدّفاع عنها والاعتزاز بها، ممّا يُعطيها حصانة وقوّة ومُقاومة في وجه حملات التّشويه والمحو والإنقاص من قيمتها. وهذا ما يحصل في النّظام العالمي الجديد الذي اتّخذ من العولمة مِعولا له لهدم الخصوصيات الثّقافية واستقلالية وتميّز المجتمعات، من أجل أغراض استعمارية جديدة ثقافية واقتصادية وفكرية اهتزّت في وجهها الكثير من المجتمعات ذات الثّقافة والذاكرة الوطنية الهزيلتين أو غير المصانتين كفاية من طرف أصحابهما، فتحوّلت بسهولة إلى مجتمعات استهلاكية تابعة للغرب. ومن هنا يدخل أيضا توظيف الأدب في صلب المقاومة الثّقافية والهوياتية.
يتوجّب علينا أن نُعطي في الجزائر أهميّة أكثر لترجمة الأعمال الأدبية الهادفة التي تخدم ذاكرتنا الوطنية إلى أعمال تلفزيونية وسينمائية كي نملأ الفراغ الحاصل وندفع عن أنفسنا المخاطر التي تتهدّد هويتنا ووجودنا كشعب متلاحم تاريخا وحاضرا ومستقبلا.
ناهيك عن أنّ المشاريع الأيديولوجية الكبرى في العالم تستعمل التّاريخ أداةً في الصّراع المتواصل، ممّا يجعله مادةً تطبع الكثير من الكتابات الأدبية، على شكل أفكار ووجهات نظر وفلسفة حياة تسمح بمواجهة المشروع المعادي من أجل إضعاف حجّته وقوّته والنّيل منه. وما زاد من حدّة هذه الظاهرة هو أنّ العالم أصبح كلّ يوم يقترب سياسيا أكثر من اليمين مبتعدا عن اليسار، معطيا بذلك زخما غير مسبوق للأحزاب والأفكار السياسية المحافظة وحتّى اليمينية المتطرّفة، التي تستميت في النّضال لفرض منطقها وخارطة طريقها على الآخر المختلف عبر تزييف التّاريخ والذي لا يُمكن أن يتحقّق سوى بمحو ذاكرة الآخر، ممّا يُحتّم التّصدّي لها وللأدبيات التي تُروّج لها وتنشرها بالكتابة والتّنوير والتّمايز عنها.
صحيح أنّ للكتابة الأدبية بعدا إنسانيا عالميا عابرا للحدود، ولكنّ هذا لا يعني بأن نذوب في وسط الكمّ الهائل من الكتابات من كلّ الأقطار والأجناس، بل من الواجب علينا أن نحجز لأنفسنا موطئ قدم، لائق ومُشرّف للثّقافة وللخصوصية الجزائرية، الجديرة بذلك كتجربة إنسانية مُتفرّدة، وهوية أصيلة، ساهمت ولا تزال تُساهم في صنع ملاحم إنسانية ناصعة، نفتخر بها، وستفتخر بها الأجيال القادمة إذا ما حرصنا على حمايتها وتوثيقها أدبيا.
في الأخير وجب الإشارة إلى تراجع المقروئية في العالم مع اختلافٍ طبعا من دولة إلى أخرى، ممّا جعل دور الأدب المكتوب يتراجع أيضا، إذ لم يصبح له التّأثير الكافي الذي كان يتمتّع به قبل ولوج العالم الثّورة التكنولوجية، التي أعطت الصورة سلطة تكاد تكون كاملة على الأفراد المتلقّين، فانفردت بإعادة صياغة الأحداث والتّاريخ وخدمت الجهات التي تتحكّم بها جيّدا على حساب جهات أخرى لا تزال لم تُدرك خطورة الأمر عليها وعلى ذاكرتها الجماعية ووحدتها الوطنية. ومن هنا يتوجّب علينا أن نُعطي في الجزائر أهميّة أكثر لترجمة الأعمال الأدبية الهادفة التي تخدم ذاكرتنا الوطنية إلى أعمال تلفزيونية وسينمائية كي نملأ الفراغ الحاصل وندفع عن أنفسنا المخاطر التي تتهدّد هويتنا ووجودنا كشعب متلاحم تاريخا وحاضرا ومستقبلا.