الأستاذ محمد سعودي وفتوحاته النوعية في الكتابة التاريخية
هاتفك الآن لا يرد.. ولن يرد.. وإذا رد فإنك لن ترد.. لن نسمع صوتك كما عهدناك.
لن تتصل بنا كما ألفناك.. ولن نسمع صوتك بعد الآن.. وأنت الباحث دوما عن الجديد لإثراء مشروعك التاريخي معرفيا وتقنيا، بمزيد من المعلومات والشهادات والمستجدات..
غادرتنا دون موعد ودون وداع.. وبلا رجعة.. كم هو صعب هذا الرحيل الذي صدم الجميع.. خاصة وأنك خلفت فراغا رهيبا في قلوب من أحبوك واحترموك واعترفوا بكفاءتك وطيبتك ووطنيتك..
غادرتنا دون أن تكمل مشروعك التاريخي الضخم والنبيل.. مشروع يصب في تسليط الضوء على قضايا وخبايا وخفايا هامة من تاريخ ثورتنا المجيدة في الأوراس.
كم هو صعب هذا النوع من الوداع.. ومن طرف إنسان راهن الجميع على كفاءته وقدرته في بعث الأمل في مشروع ضخم.. مشروع مؤسساتي.. مشروع تتحمل مسؤوليته المخابر والفرق البحثية.. لكن فضلت أن تتولاه بمفردك على مدار 7 سنوات كاملة.. سلاحك القلم والهاتف وسيارتك التي سخرتها للتنقل إلى مختلف المناطق في أوراسنا الكبير وفي صحرائنا الشاسعة أيضا.
لم أكن أتوقع سماع خبير رحيلك.. وأنت الذي غادرت نحو العاصمة في زيارة عائلية بعد اللقاء الذي جمعنا في بيت المجاهد المثقف عبد المجيد شلواي.. وكنت تعتزم أن تعود بعد 10 أيام لمواصلة فتوحاتك التاريخية، لكن إرادة الله أرادت أن تودعنا في منزلك بالعاصمة وأنت منهمك في الكتابة في ساعة متأخرة من الليل.. قبل أن تسقط بشكل مفاجئ من الطاولة والكرسي.. ودعت هذا العالم وأنت تكتب آخر حروفك لتسليط الضوء على مشروعك التاريخي المميز.
آخر لقاء جمعنا كان يوم السبت 24 أوت 2024 بمنزل المجاهد عبد المجيد شلواي. وقد تزامن ذلك مع ذكرى عيد ميلاده، بحضور رفيقه في السلاح الشريف بوجنيفة ووجوه بهية أخرى. وقد أكرمنا كعادته، كما منح لنا فرصة تسجيل جلسة حوارية ثرية وبهية. وكان لك إسهام مميز فيها.
أتذكر أننا حين زرنا منزل المجاهد المثقف عبد المجيد شلواي كنت قد أعرت كتابا منه حول مذكرات المجاهد مهيري، ووعدت بإعادته بعد 10 أيام إلا أنك أعدته له بعد أقل من يومين قبل تنقلك إلى العاصمة مثلما ذكره لي المجاهد شلواي. فأنت حريص على إعادة الأمانة إلى أهلها.. وفي كثير من الأحيان قبل الموعد المتفق عليه.
اتصالاتك الدائمة كانت تعكس حرصك على إنهاء مشروعك التاريخي حتى يرى النور في القريب العاجل.
في غمرة الكثير من اللقاءات التي جمعتني بك في مختلف سفرياتك وحتى في منزلك بحي الزهور، كنت أطلب منك الإسراع في إصدار الشطر الأول من العمل حتى يكون محفزا لك على إنجاز الباقي، في وقت شهية البحث كانت في أوجها منذ تفرغك لهذا العمل التوثيقي مباشرة بعد إحالتك على التقاعد عام 2015.
سبق لي أن اقترحت عليك ضرورة تسجيل حصص إذاعية وتلفزيونية تصب في خانة الحفاظ على الذاكرة الوطنية، وأنت القادر على ذلك بمنطق العارف الفصيح الموضوعي الصريح، القادر على إثراء المشهد الإعلامي بحصص تلفزيونية تفيد الأجيال الصاعدة لمعرفة تاريخ ثورتهم المجيدة. كما كنت أتمنى أن أسجل معك حلقات على قناتي في اليوتوب حتى تكون تحت تصرف المهتمين، سواء ما تعلق بتاريخ الثورة أم بسيرتك الذاتية، التي كانت حافلة وثرية، وأنت الذي عانيت خلال الثورة، فقد رفعت التحدي رغم معاناتك من اليتم مبكرا واستشهاد والدك في هاخنقاث هموعيرث، فقد تنقلت إلى تونس للدراسة ثم واصلت المسيرة العلمية في جامعة الجزائر، حيث كنت ضمن الدفاعات الأولى لمعهد الصحافة بالعاصمة، غير بعيد عن وجوه إعلامية صنعت المشهد الإعلامي لسنوات، مثل سعد بوعقبة ومحمد عباسو والبقية، في الوقت الذي كان حبيب راشدين زميلك في الدراسة. واشتغلت في جريدة “الشعب” ثم في مجلة “الثورة والعمل”، لتقرر تحويل الوجهة نحو وزارة الداخلية والجماعات المحلية، فشغلت منصب رئيس دائرة في عدة ولايات من الوطن.. سطيف وباتنة وأم البواقي وسكيكدة وتبسة والبقية.
كان هذا المشروع بمثابة الفتح المبين.. وهو فعلا كذلك.. وكان بمثابة تجسيد لطموحات وآمال الأسرة الثورية ورسالة الشهداء.. وفي مقدمة ذلك والدك الشهيد مسعود سعودي.
كم هو مؤلم هذا الرحيل ومشروعك في منتصف الطريق.. أو على الأقل في حاجة إلى رتوش لا يمكن لأحد منا القيام بها سوى أنت بقلمك الأنيق وفكرك العميق. مشروع يفترض أن تقوم به المؤسسات والمخابر.. مشروع مؤسساتي بحت.. لكن بإرادتك رفعت التحدي وحدك.. بسلاح القلم والهاتف والسيارة تحولت إلى رحالة لا تترك مكانا فيه مجاهد قادر على مد الإضافة أو عائلة ثورية بمقدورها أن تدعمك بشهادة أو وثيقة أو أي شيء يخدم مشروعك، بل حرمت نفسك من حقك في الحد الأدنى من ساعات الراحة والنوم.. كيف لا وأنت تغادر هذه الحياة وأنت منهمك على كرسي وطاولة لتدوين آخر فكرة لك قبل أن تسقط أرضا بشكل مفاجئ وقلبك متعلق بهذا المشروع الحلم..
كم هو مؤلم هذا الرحيل، الأستاذ محمد، وأنت الذي عدت إلى الواجهة من بعيد.. وأحسست بتحرر كبير بعد إحالتك على التقاعد. فقد استعدت ذاكرتك الطفولية التي عايشت بها محطات هامة من الثورة التحريرية (من مواليد 1948) وطعمتها بمشروع ضخم يصب في خانة توثيق محطات هامة من تاريخ الثورة بالأوراس بشكل عام وفي مسقط رأسك اينوغيسن على وجه الخصوص.. مشروع مبني على التنقلات الميدانية لتدوين شهادات المجاهدين وعائلات وأبناء الأسرة الثورية.
عملك القيم كان مبنيا على الديناميكية الإعلامية (وأنت البارع في ميدان الصحافة تكوينا وممارسة) والضبط الأكاديمي الموضوعي الذي كان حاضرا بقوة، وأنت الذي تمرست في هذا الجانب، وقد سجلت في طور الماجستير إلا أن التزاماتك المهنية حرمتك من إنهاء الدراسات العليا.
الشيء المميز في عملك هو الموضوعية في الطرح والاحترافية في التعامل مع الجميع.. فقد كنت حريصا على تنويع الشهادات والمصادر.. والقيام بمقارنات حتى تقف على صحة المعطيات والأقوال ومدى تطابقها من عدمه في أي حادثة أو معركة.. أو أي قضية هامة عرفتها الثورة التحريرية المباركة.
آه، الأستاذ محمد.. كيف أعدت الأمل للجميع بهذا المشروع وبعد ذلك تغادرنا دون إتمامه.. لقد وضعتنا في مأزق كبير.. وأنت تعرف بأن هذا المشروع بدأته أنت ولا أحد بمقدوره أن يعوضك أو يخلفك في هذه المسؤولية الصعبة والشاقة.. مسؤولية كثيرا ما فرضت عليك العزلة والغياب مدة طويلة عن المحيط العائلي.. لسبب واحد ووحيد هو تسجيل أكبر من الشهادات التاريخية.. وجمع أكبر عدد من المعلومات والمعطيات التي تعينك على تسلي الضوء حول قضايا تاريخية هامة لم تأخذ حقها في التوثيق.. وهي حلقات مفقودة وهامة في تاريخ ثورتنا المجيدة.
عانى من اليتم.. طفولة شاقة وقاسية.. وطموحات جادة متجددة..
لم تكن مسيرة المرحوم محمد سعودي، الذي غادرنا يوم الخميس 29 أوت 2024، مفروشة بالورود، فهو من مواليد 1948، وعاش طفولته في منطقة نائية معزولة، لم يكن فيها الحديث إلا عن ممارسات الاستدمار الفرنسي ثم التحضير للثورة التحضيرية، بفضل أبطال قرروا صعود الجبل لمحاربة العدو تحت قيادة الشهيد البطل مصطفى بن بولعيد، حيث أنجبت بلدته إينوغيسن عديد الأبطال الذين يضرب بهم المثل في الكفاح والتضحية، والبداية بمسعود بن زلماط الأول الذي يبقى اسمه مدونا في ثورة الأوراس 1916، ثم الخارجون عن القانون الفرنسي الذي فضلوا الجبال وتكسير شوكة فرنسا الاستدمارية، مثل الصادق شبشوب المدعو قوزير ومسعود بن زلماط الثاني ودرنوني وغيرهم، يضاف إليهم حسين برحايل من شناورة وقرين بلقاسم من كيمل.. ليبلغ عددهم أكثر من 16 فردا خرجوا عن طاعة فرنسا، مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، وساهموا في التحضير للثورة وإشعال فتيلها بالتنسيق مع البطل مصطفى بن بولعيد. وعلاوة عن معاناته من اليتم المبكر، فقد استشهد والده في هاخناقث هموعيرث رفقة عدد من المجاهدين والمناضلين، الذين رفضوا الاستسلام لفرنسا، من بينهم الشهيد محمد الصالح بلاح الذي ترك عبارته الشهيرة: “نتخبى في الغار ومانسلمش روحي للكفار”. وقد كان المرحوم محمد سعودي حاضرا في تلك المجزرة بذاكرته الطفولية وجسمه النحيف، وقد وصف كيف في منشورات سابقة له حيثيات هذه الحادثة التي استشهد فيها والده رفقة عشرة أبطال آخرين في هاخناقث هموعيرث بمرتفعات جبال هاجرنيت بإينوغيسن، غير بعيد عن سفوح جبال شيليا الشاهقة. وبعد الاستقلال، كان واحدا من الحضور لحمل رفات الشهداء، وقد كلف بحمل رفات والده الشهيد مسعود سعودي، ليتم تشييعها جماعيا في مقبرة الشهداء بإينوغيسن.
تفاصيل استشهاد والده مسعود سعودي ورفاقه في “هاخناقث هموعيرث“
وبخصوص تفاصيل استشهاد والده، سعودي المسعوذ، يوم 25 فيفري 1961، مع عشرة من رفاقه في مغارة هاخناقث هموعيرث، فقد كان لي منشور على صفحتي في الفايسبوك يوم 12 ماي 2012، خصصته لعمتي جمعة رحمها الله، والدة الشهيد محمد الصالح بلاح، الذي سقط في ميدان الشرف رفقة والده وأبطال آخرين، فأتحف المرحوم محمد سعودي المنشور بتعليق ثري حول تلك الحادثة قال فيه: “أتذكر جيدا يوم استشهاد بلاح محمد الصالح ورفاقه، من بينهم أبي سعودي المسعوذ أوبومعراف. بعد أن تمكنت قوات الاستعمار من قتل هؤلاء الأبطال العشرة بالغازات السامة بعد رفضهم الاستسلام، قامت بالانسحاب من المكان في اليوم الثالث من الحصار، فهرع السكان إلى مكان المغارة التي تقع بتاجرنيت السفلى وبالضبط في المكان المسمى (هاخناقث هموعيرث) بإينوغيسن، فرافقت- وأنا صغير السن- عمتي جمعة (أم الشهيد) وعمتي ملوكة سعودي أخت الشهيد مسعود، وحيزية شبشوب أخت الشهيد الصادق المدعو (قوزير)، فكنا أول من وصل إلى المغارة فوجدنا جثة بلاح محمد الصالح عارية تماما، مرمية بالقرب من مدخل المغارة، فقامت عمثي حيزية شبشوت بتغطيتها بـ(ملحفة) سوداء كانت ترتديها، فأصيبت أم الشهيد بالذهول والإغماء من شدة تأثرها على فلذة كبدها، فوصل السكان للمغارة تباعا، فقاموا بدفن الشهيد بلاح محمد الصالح على عجل، تاركين رفاقه في المغارة، لأنها كانت مملوءة بالغازات السامة وصفائح هذه المادة السامة -وهي بيضاء اللون- كانت متناثرة أمام مدخلها فتفرق الجمع وعدنا إلى ديارنا، فأوصتني عمتي ملوكة -ونحن في طريق العودة- بأن أقول للحركى- إذا ما سألوني عن سبب تواجدنا بناحية المغارة-: كنا نبحث عن قطيع غنم ضاع منا، غير أنهم لم يسألونا، فوصلنا ديارنا والحزن باد على محيا الجميع، على فراق هؤلاء الأبطال الذين استشهدوا بسبب وشاية، وعشية الاستقلال تم استخراج رفاتهم الطاهرة بصعوبة كبيرة، لأن رائحة الغاز مازالت قوية بداخل المغارة.. لذلك، أغمي على بعض الأشخاص الذين دخلوها لاستخراج رفات الشهداء، فنقلوا إلى مصحة العلاج بإشمول في شاحنة عاشوري أحمد لتلقي الإسعافات. أما رفات الشهداء- وعددها عشرة- فتم جمعها في أكياس من القماش بيضاء اللون، فوضعت بمسجد إينوغيسن في جو حزين، فتوليت أنا حمل كيس رفات والدي.. وبعد أن تم جمع كل رفات باقي الشهداء الذين سقطوا في ميدان الشرف بتراب البلدة ومنهم شهداء من بعض مناطق الوطن، تم دفنهم في حفل رسمي بمقبرة الشهداء بإينوغيسن، التي تعد من أكبر رياض الشهداء بولاية باتنة.
من مهنة المتاعب إلى متاعب الإدارة
ورغم معاناته من اليتم في عز البراءة والطفولة، وفي عز الثورة التحريرية، إلا أن ذلك لم يمنعه من مواجهة جميع المصاعب بصبر، ما مكنه من مواصلة دراسته، حيث حفظ ما تيسر له من كتاب الله في كتاتيب القرية عند الشيخ سي بالة أوبالة، ثم درس في باتنة بعد الاستقلال، ليشد الرحال إلى تونس منتصف الستينيات، التي نال فيها شهادة البكالوريا، بعد ذلك عاد إلى أرض الوطن ودرس في جامعة الجزائر، حيث تخرج من كلية العلوم السياسية والإعلام (معهد الصحافة)، سبعينيات القرن الماضي، وكان من ضمن الدفعات الأولى، إلى جانب كبار الصحفيين الذين صنعوا التميز لسنوات طويلة، مثل سعد بوعقبة ومحمد عباس والبقية، وبحسب حديث جمعني به في وقت سابق، فقد تخرج في نفس الدفعة التي من ضمنها الصحفي المعروف حبيب راشدين، وكان التنافس كبيرا بينهما على المراتب الأولى في الدفعة، وبعد تخرجه فضل خوض مسيرة متنوعة مع مهنة المتاعب، والبداية كانت في جريدة الشعب، ثم حول الوجهة إلى مجلة “الثورة والعمل”، ليقرر بعد ذلك مغادرة الصحافة ومهنة المتاعب نحو متاعب الإدارة، وذلك من بوابة وزارة الداخلية والجماعات المحلية، حيث اشتغل رئيس دائرة في عدة ولايات منها سطيف (دائرة بئر العرش ثم سطيف) وباتنة (دائرة عين التوتة) وأم البواقي وسكيكدة (دائرة تمالوس) وتبسة (دائرة العوينات) وغيرها.
التفرغ للكتابة التاريخية وتسليط الضوء على الخبايا الثورية المنسية
وبعد تقاعده عام 2015، عاد إليه حنين القلم والأوراق، وفضل تسخير جهده ووقته وفكره للكتابة التاريخية حول الثورة التحريرية بمنطقة الأوراس، ما جعله يصنع التميز بمقالاته المطولة التي تجمع بين رقي الأسلوب ودقة المعلومة، بفضل قربه من المجاهدين والباحثين ومختلف المهتمين بتاريخ الثورة، وقد كان حريصا على جمع الشهادات والمعلومات من مصادرها، وفق بحث أكاديمي ميداني اتسم بالكثير من الموضوعية والمصداقية، وهو الذي لم يترك أي مجاهد أو عائلة ثورية إلا وطرق بابها، بحث عن مختلف خبايا وتفاصيل الثورة من معارك وكمائن وسير مجاهدين وشهداء وغيرها.. وقد قطع أشواطا هامة لإنجاز كتاب حول دور بلدية اينوغيسن في الثورة التحريرية، مثلما أنهى مخطوطا حول مدرسة الفلاح الإصلاحية، التي تأسست منتصف الثلاثينيات، بتزكية من الشيخ عبد الحميد بن باديس. وكان مبرمجا أن يرى هذا المخطوط النور شهر نوفمبر المقبل، إلا أن إرادة الله أرادت أن يرحل الأستاذ محمد سعودي عن هذا العالم، فجر الخميس 29 أوت المنصرم، دون أن يواصل إنهاء أعماله ومشاريعه في الكتابة التاريخية التي تفرغ لها خلال السنوات الأخيرة.