-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الأسرارُ الإلهية في الزّمان والمكان والإنسان

ناصر حمدادوش
  • 1511
  • 1
الأسرارُ الإلهية في الزّمان والمكان والإنسان
ح.م

 يعتقد البعض خطأً أنّ الزّمن هو الفرصة السّانحة التي لابدّ منها للنّهوض بالأعمال والقيام بالواجبات وتحقيق الإنجازات، وأنه كلّما كان الوقت أكبرُ اتساعًا كانت الأعمال أكثرُ كمًّا وأحسنُ نوعًا.. هذا المنطق غيرُ دقيقٍ من النّاحية العلمية، وبالتالي فهو غير صحيح من ناحية الحقيقة الدّينية، وهو غير منسجم مع حجم إنجازات الإنسان بالفاعلية المشهودة في تعاطيه مع الكون والحياة.

 المنطق العلمي يؤكد أنّ العمل والحركة هما ما يُنشِئ الزّمن كبُعدٍ رابعٍ من أبعاد الجسم، أي هما الأصل والذات والزّمن ظلٌّ تابعٌ لهما وليس العكس، على اعتبار أنّ الجسم الثابت له ثلاثة أبعاد: الطول والعرض والارتفاع، فإذا تحرّك نشأ البعد الرابع وهو الزّمن، وهو ما يؤكد أنّ الزّمن لا حقيقة مادية لوجوده، فهو مجردُ وضعٍ اصطلاحي معرفيّ مرتبطٍ بالحركة وجودًا وعدمًا.

من أخصّ المصطلحات وأكثرِها شيوعًا في العُرف الاجتماعي، وأوسعِها استعمالاً في التوظيف الشّعبي مصطلح “البركة”، وهي من أغنى الكلمات دلالةً على الحقيقة العلمية في الاستعمالات الشّرعية للقرآن الكريم والسنّة النبوية الشّريفة.فهي تحِلّ في المكان، كما قال تعالى عن المسجد الحرام: ((إن أوّل بيتٍ وُضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدًى للعالمين)) (آل عمران:96)، وهي تحِلّ في الإنسان، كما قال تعالى على لسان سيّدنا عيسى عليه السلام: ((وجعلني مباركًا أينما كنت، وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًّا)) (مريم:31)، وهي تحلّ في الزّمان كما وصف النبي -صلى الله عليه وسلّم- شهر رمضان في قوله: “أتاكم رمضان، شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فينزّل الرّحمة، ويحطّ الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته؛ فأرُوا الله من أنفسكم خيرًا، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ رَحْمَةَ اللَّهِ فيه”.. فما معنى البركة؟ وما هي آثارها وثمراتها؟ وهل هي مجرد اصطلاحٍ غيبي بلا مضمون؟ أم لها تجلّياتٌ واقعيةٌ في حياة الإنسان؟

تُستعمل البركة في الاصطلاح العام وتعني الزّيادة والنّماء، وهي بالمعنى الخاص تدلّ على السرّ الكامن في الشيء، فلكلّ شيءٍ شكلٌ ومظهر، وله سرٌّ وجوهر، فالإنسان له شكلٌ ومظهر وهو الجسد، وله سرٌّ وجوهر وهو الروح، وهي التي تدلّ على المعنى الحقيقي لوجوده وحركته. فالشكل ما تراه العين من مظاهر الأشياء المادية، والجوهرُ ما ندركه من حقائق الأشياء المعنوية، مثل: الماء، فقد قال تعالى عنه: ((ونزّلنا من السّماء ماءً مباركًا فأنبتنا به جناتٍ وحبّ الحصيد)) (ق:09)، فنرى شكله المتمثل في القطرات، وندرك سرّه وهو: الحياة، كما قال تعالى: ((وجعلنا من الماء كلّ شيءٍ حي)) (الأنبياء:30)، ومثل الزّواج عندما ندعو فيه بالبركة فنقول كما في السنّة في قوله صلى الله عليه وسلّم: “بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير”، فالحياة الزوجية لها شكلٌ ومظهر وهما الزّوجان والأولاد والمسكن، ولها سرٌّ وجوهر وهو المودّة والرّحمة والسّكينة.وهكذا عمر الإنسان؛ له شكلٌ ومظهر، وله سرٌّ وجوهر، قال تعالى: ((الذي خلق فسوّى، والذي قدّر فهدى)) (الأعلى: 02- 03)، فالخلْق مظهرٌ والهداية جوهر.

فإذا كان الزّمن ليس هو الدّعامة الفعلية للنهوض بالأعمال وتحقيق الإنجازات فما هي الدّعامة الحقيقية؟ إنّ الدّعامة الحقيقية له -وفق التصوّر العقدي الإسلامي- هي سرّ التوفيق الإلهي، عندما نحصرها دائما في ذلك الاعتقاد في قولنا: ((وما توفيقي إلا بالله)) (هود:88)، والذي يعني البركة التي تحِلُّ في الزّمان والمكان والإنسان.. فمن أدركها أنجزَ أعمالاً جليلةً في أوقاتٍ قصيرة، وإنّ التاريخ الإنساني ليفيض بأمثلةٍ على ذلك كثيرة، عن رجالٍ سَرَت البركة في أعمارهم وأعمالهم شُعلةً وضّاءةً حقّقوا بها إنجازات عظيمة في أوقاتٍ وجيزة، قد لا يصدّقها البعضُ بالمنطق العقلي المجرّد، فلا تزال آثارُهم تدلّ عليهم، يعيشون أعمارًا غير أعمار أجسادهم، ولا يزال النّاس يستظلّون بإنجازاتهم إلى الآن، وبالمقابل: كم من أناسٍ عاشوا مثل الحيوان وماتوا مثل الذّباب: ((هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا)) (مريم:98). فالزّمن مثل الوعاء المطاطي، يزيد وينقص بحسب ما نحشوه من الأعمال، وهو ما يؤكد الحقيقة العلمية في مفهوم النّسبية في الزّمن.

كيف نتعرّض لهذه البركة الإلهية؟ وكيف السبيل إلى هذا التوفيق الرّباني؟ يكون ذلك وفق قاعدة: بحسب الاستعداد يكون الإمداد، فيكون بـ:

1. الاستعداد الذي جهّزنا الله به: واغتنام الفرصة السّانحة الممنوحة لنا، وتوظيف الطاقات والقدرات التي متّعنا بها، والعمل من أجل القيام بالوظيفة التي خُلقنا من أجلها حضورًا وفاعلية.

2. التعرّض للنّفحات الإلهية والفتوحات الرّبانية: فقد قال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ لِرَبِّكُمْ عزَّ وجلَّ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ لنَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا، لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ مِنْهَا نَفْحَةٌ لا يَشْقَى بَعْدَهَا أبدًا”، وذلك بتفعيل الإرادة البشرية والتعبّد بالأسباب، واستجلاب التوفيق الإلهي بالتوكّل على الله عزّ وجل وصدق الالتجاء إليه والاستعانة به، كما قال صلى الله عليه وسلم: “استعن بالله ولا تعجز”، وهو ما نردّده يوميًّا: ((إيّاك نعبد وإيّاك نستعين)) (الفاتحة:05).فهل هناك أسرارٌ إلهية ونفحاتٌ ربّانية لهذا السّرّ من البركة خلال شهر رمضان؟

إنّ البركة تتركّز أكثر في الزّمان خلال شهر رمضان، والذي نفخ الله فيه من روحه بأعظم حدثٍ كوني ارتبطت فيه الأرض بالسّماء وهو نزول القرآن الكريم، كما قال تعالى: ((وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا)) (الشّورى:52)، فهي في الشّهر كلّه، ثم تتركز أكثر في العشر الأواخر منه، ثم تتركّز أكثر في ليلة القدر، كما وصفها القرآن الكريم: ((إنّا أنزلنا في ليلةٍ مباركة)) (الجاثية:03)، ولهذه البركة آثارٌ عملية وثمراتٌ واقعية على الإنسان في الدّنيا والآخرة. فبركة المكان -مثلاً- في قوله صلى الله عليه وسلّم: “صلاةٌ في المسجد الحرام خيرٌ من مائة ألف صلاة فيما سواه”، أي صلاةٌ واحدةٌ فيه أفضلُ أجرًا وأعظم أثرًا من الصّلاة في غيره بأكثر من صلاة 54 سنة، ومَن صلّى 5 صلوات فيه كان له من الأجر والأثر أفضل من صلاة 270 سنة، ومن صلّى فيه 10 أيام فهي أفضل من صلاة 2700 سنة في غيره، وهو ما لا يصدّقه العقل المجرد والمنعزل عن هذه الأسرار الإلهية، وهو ما يتجاوز عمر الإنسان بأضعافٍ خيالية. وبركة الزّمان في رمضان تتجلّى مثلاً في قوله صلّى الله عليه وسلّم: “عمرةٌ في رمضان تعدل حجّة معي”، وتتركّز أكثر في ليلة القدر في قوله تعالى: ((ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر)) (القدر:03)، فمن صلّى فيها ركعتين مثلاً كان أفضلُ وخيرٌ من ركعتين لمدة 83 سنة و4 أشهر عبادةً متصلة وخالصة، وهي خيرية مفتوحة، فبقدر ذلك الاستعداد بحضور العقل والقلب فيها بقدر ما يكون فيها من العطاء الرّباني عليها، وهو السرُّ في ذلك الحرص والاجتهاد النبوي في العشر الأواخر من رمضان أكثر من غيرها، فقد روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها”، وروى البخاري عنها قالت: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله”.فكلّما حاز الإنسان هذه اللّطائف الإلهية وأدرك هذه الأسرار الرّبانية إلاّ أورثته الدّخول في هذا العالم اللاّمتناهي من الإنجازات العظيمة في أوقاتٍ قصيرة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • المتأمل من بجاية

    شكرا لك يا أستاذ...لقد طرحت للقراء مقالا عميقا وثريا ونيرا واستفدنا منه والبعض الآخر ذكّرته...
    فالعمل بالتوكل على الله و أخذ الأسباب الحسنة التي يرضاها الله والدعاء له واستغلال النفحات الربانية يوفق الله عبده ويجعل في رزقه بركة.....