-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الأمية العلمية والفكرية والثقافية والسياسية وموانع الحوار مع الذات

الأمية العلمية والفكرية والثقافية والسياسية وموانع الحوار مع الذات
ح.م

يجب أن نضع في اعتبارنا بداءةً أن الحوار خلق وصفة وسلوك رباني اتصف به المولى تبارك وتعالى وخلعه على نفسه وذاته العلية، ومارسه سبحانه وتعالى مع الكثير من مخلوقاته، بدءًا من معشر الملائكة المقربين حينما استفسرهم عن رأيهم في هذا المخلوق الجديد، والحوار الرباني وأدبياته وخصائصه ومواصفاته وطرقه ومنهجه وأهدافه.. مفصّل في سورة البقرة في الآيات 30..39، التي مطلعها قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبِّح بحمدك ونقدِّس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) (البقرة: 30).

كما فعَّل الله تعالى الحوار مع الأنبياء والمرسلين من البشر فحديثه إلى عبده ومخلوقه آدم عليه السلام: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة..) (البقرة: 35) خير مثال على ذلك، ونداءه ومناجاته مع أنبيائه نوح وإبراهيم وموسى وزكريا وعيسى ويحيى ومحمد عليهم الصلاة والسلام خير أنموذج على ذلك، ومع أنبيائه مرسليه في حديثهم مع مختلف الحيوانات أيضا، ومع صغار الحشرات كالنحل (وإذ أوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون..) (النحل)، ومع الجمادات، ومع ما لا نعلمه أيضا، فقال في محكم تنزيله: (ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يُهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء) (الحج: 18). قال المفسرون: السجود علامة الوجود الواعي، ولكن تختلف كيفياته وهيئاته بين المخلوقات، فسجود الشمس والقمر يختلف عن سجود الجبال والبشر.. وهذا شكل من أشكال الحوار بين الخالق ومخلوقاته.

إذن فالحوار وسيلة نبيلة لغاية نبيلة، وسلوك ديني وحضاري محترم جدا لتحقيق أهداف وغايات دينية وحضارية محترمة جدا، وقد ترك لنا الفكر الإسلامي كمّا كبيرا من الأبحاث حول آداب الحوار، إذ عقد أبو حامد الغزالي 450-505هـ فصلا محترما في كتابه الشهير (إحياء علوم الدين) في كتاب العلم باب آداب المناظرة الحوار وآفات الجدل، إلى أن صار مبحثا تشترك فيه الكثير من العلوم في الفكر الإنساني المعاصر، فالعلوم السياسية تنظر إليه من زاوية الخطاب السياسي وتحليلاته ومآلاته، والعلوم الاتصالية والإعلامية تنظر إليه من زاوية أركان الحوار وثماره.. وهكذا سائر العلوم. وثمة الكثير من المؤلفات والكتب والرسائل العلمية الأكاديمية التي تناولت الحوار في القرآن الكريم ككتاب (محمد حسين فضل الله)، والحوار في السنة النبوية، وغيرها من المصنفات والتآليف والبحوث الأكاديمية.

هذا هو الحوار الذي نقصده ونتأدَّب بآدابه، ونقتفي آثاره، الحوار البنَّاء الهادف والمثمر، الذي تتوفر فيه سائر الأركان (طرفَا الحوار، المشكلة المتحاور فيها، الآليات والوسائل والطرق والمناهج، النتائج والأهداف والغايات النبيلة)، وهو نوعان:

1 – النوع الأول: وهو الحوار مع الآخر المخالف، الذي تنتظمه نظريات كنظرية نهاية التاريخ الانسدادية لفرنسيس فوكوياما المنغلق المستعلي المستكبِر على هيمنة الأنموذج الغربي المسيحي على العالم، ونظرية صراع الحضارات العنصرية لصمويل بي هنتغتون الاستعلائي المتشدِّد، ونظرية حوار الحضارات لفصيل من الباحثين المحايدين والأخلاقيين، ونظرية تعارف الحضارات لمثقفي نخبة منتدى الكلمة بلبنان، ونظرية اعتذار الحضارات..

2 – والنوع الثاني: وهو الحوار مع الذات، وهو الذي نعنيه، وهو لا يختلف عن النوع الأول من حيث الأدبيات والأركان إلاّ في بعض المعطيات والخصوصيات المتعلقة بطرفي الحوار، الواجب احترامها وعدم المساس بها كعقيدة ودين وثوابت الآخر..

وبعد أن تبين لنا المعنى الاصطلاحي للحوار، وأنواعه، والنظريات التي تنتظمه، ونوعية الأطراف المعنية به، ننطلق لتناول المعنيين والمقصودين بالحوار داخليا من كافة الطبقات والشرائح والفئات الشعبية القاعدية أو النخبوية، والتي نتمنى أن يكون فهمها جليا لهذه الصفة الربانية، وألا تكون ممن يتخذ الحوار وسيلة من وسائل الشيْطنة الإبليسية للاحتيال والانقلاب على الطرف الآخر، ولذلك لم يبارك الله المتحاورين الذين لا يُجلّون صفته وخلقه الرباني، ويجعل احترابهم وفتنتهم عظيمة بعد حوارهم الشكلي الكاذب، لأنهم ما عرفوا قدره عندما جهلوا قدره كونه صفة من صفات الله، (وما قدروا الله حق قدره..) (الزمر: 67) و(مالكم لا ترجون لله وقارا) (نوح: 13).

مواصفات أطراف الحوار:

 أما أطراف الحوار الداخلية فهي القوى السياسية الموجودة في السلطة من جهة كطرف من أطراف الحوار، ثم القوى السياسية المتمثلة في الأحزاب المعارِضة، ثم في الفئات التي ستفرزها طبقات الحَراك الشعبي أو ما أسميناه الثورة بلا قيادات، أي القيادات الحَراكية الجديدة، وبعض الشخصيات الوطنية والحقوقية. ومن فوقها الجيش الجزائري كمؤسسة حاضنة وضامنة وراعية للعملية الحوارية برمتها، وإن كانت ليست طرفا فيه، فهي طرف مؤشر أو موجّه لوطنية وخيرية ونفعية الحوار.

ونحبّ أن نتناول في مطلع هذه القراءة التحليلية لأدبيات الحوار الذي نريده ونتمناه، موقف ورؤية السلطة القائمة كطرف أساسي في الحوار، وبتفكيكها تجرُبيا وتاريخيا يمكننا أن نرسم لها لوحة تراجيدية سوداء قاتمة، حيال مفهوم الحكم والسلطة والدولة، فهي مفاهيم وممارسات تاريخية استمرت لسنوات 1962-2019م لا تمتّ بصلة لا إلى التراث الديني، الذي يعدّ منصب رئيس الجمهورية أو الملك أو الأمير أو رئيس الحكومة نائبا وممثلا للأمة التي اختارته أو انتخبته، ليرعى شؤونها ويحمي حقوقها ويحفظ كيانها وكرامتها وثوابتها وماضيها وحاضرها ومستقبلها، ولا يمت بصلة أيضا للتراث الديمقراطي المدني، الذي أفرزته التجربة الديمقراطية الحديثة في الغرب الوضعي، المتمثل في شكل الدولة المدنية الحديثة ومؤسساتها وجمعياتها وأحزابها.. فتصور السلطة سيء جدا.

 ولقد أثبتت التجربة أن السلطة القائمة في الجزائر منذ الاستقلال إلى اليوم لم تعتمد الحوار للوصول إلى ما فيه نفع وخير البلاد والعباد أبدا، وإنما استخدمت الحوار للاحتيال والتزوير وربح الوقت لتصفية المعارضين وتقييد حرية المخالفين واكتشاف المناوئين، وبالتالي فهي سلطة غير مأمونة الجانب، حتى ولو تغيرت الآن بفعل الحَراك الشعبي شكليا أو ضمنيا، لأن صورة عقود الماضي التعيس والمليء بالقهر والقمع والفساد تحتاج إلى عقود أخرى من الصدق والاستقامة والخيرية حتى تضمن لها مكانا آمنا ومقبولا بين ملايين الحراكيين الرافضين لها، وهذا أمر طبيعي، فمن كذب مرة ومرة ومرة، ومن خان مرة ومرة ومرة، ومن زوّر مرة ومرة ومرة، فلن يصدقه أحد أبدا، ولذا عليها -لوكان في وجوه رموزها شيء من الحياء والحشمة- أن ترحل بخجل وصمت وسكون، وعليها أن تعتذر وتتأسف وتتوب وتندم مما اقترفته في حق هذه الأمة الطيبة، التي تسببت لها في كل هذه الآلام والمآسي والجرائم، أما عند الله فالخطب أعظم لو كانوا يعلمون.

أما الأحزاب السياسية المعارضة كطرف أولي ومهم وأساسي في الحوار، فرسم صورتهم التهريجية يحتاج إلى تمكن وتمهر من فن الرسم السريالي والتجريدي والتكعيبي والتشكيلي، وإلى إتقان لفن المسرح العبثي واللامعقول والتهريجي الصاخب.. ولعلي أذكر نتفا مؤلمة وساخرة من خلال معايشتي والتقائي وتعرُّفي على الكثيرين من قياداتهم ورموزهم، واطلاعي ومعرفتي المباشرة بمستواهم العلمي والمعرفي والفكري والثقافي والأدبي والأخلاقي والسياسي أيضا، وذلك من خلال مشاركتي إياهم في الحملات الانتخابية أو التضامنية أو الاحتجاجية أو الخيرية أو الفكرية، إذ تبيَّن لي -من غير ما تردد- أنهم لا يمتلكون الفهم السوي والصحيح لمعنى تكوين الحزب السياسي ولأسسه ومنطلقاته ولمبادئه ولأهدافه ولوسائله ولمناضليه، ولا يعرفون معنى تكوين المناضلين المجتمعين على الفكرة، تلك الفكرة التي يسعى التنظيم الحزبي لبلورتها في شكل وعي حزبي دائم بها، لينتقل بها إلى مختلف الشرائح الاجتماعية ليقنعهم بعدالتها ووجهاتها، كي ينضموا لصفوف ذلك الحزب ويصبحوا مناضلين مع الفكرة، وذلك عبر الاجتماعات الأسبوعية للمناضلين الأوفياء.. وسأتناول برمزية شديدة التركيز والتلميح ملامح صورتهم البائسة كطرف متطلع للحوار لأنه بحسبهم وفهمهم القاصر والأرعن أنه هو الطريق الأوحد والآمن نحو كرسي السلطة والفساد الذي يحلمون به.

ولكن قبل تناول هذا أود أن أضخ شيئا من الحكمة الحزبية التي رضعتها من خلال تأدُّبي على خيرة علماء الشام المناهضين للنظام العلوي في سورية سنوات 1970-1975م، وتأدبي على أديب الدعاة وشيخ الدعاة فارس الدعوة الإسلامية في العصر الحديث، ففي مطالع ثمانينيات القرن الماضي كان شيخنا العلامة (حسن مرزوق حبنكة الميداني 1908-1978م) يدرِّس خاصة الطلبة الملتزمين في حلقة في جامع (منجك) بالميدان جنوب مدينة دمشق خلصها الله من رجس الشيعة والنصيرية، درسا في العقيدة الإسلامية من كتابه (العقيدة الإسلامية وأسسها) والذي أملاه على ابنه الشيخ (عبد الرحمن حفظه الله حي 2019م 1440هـ)، ويشرح لنا قصص الأنبياء – وهو منهج المدرسة الشامية في تدريس العقيدة على النقيض من منهج المدرسة السلفية الوهابية- ولما يصل الموضع لقصة ودعوة ومحنة نبي من الأنبياء نجد الشيخ يسترسل في شرح حقيقة الأنظمة الفاسدة ويصب عليها جام غضبه، فيما تحفل القاعة بالمخبرين، ولا يكاد أحدٌ يستطيع الوصول للشيخ، لأن الشيخ كان ذكيا في الوعي السياسي لطلبة الحلقة الذين هم في الأساس مجموعة خلايا حزبية مؤمنة بالله تحافظ على الحد الأدنى مما بقي مطارَدا من قيم الإسلام الجريحة تحت سياط وجبروت الأنظمة الانقلابية. فيما كانت أسئلتنا تنصبّ على الشيخ (محمد الغزالي 1917-1996م) ليذكر لنا شيئا عن شخصية الإمام الرائد والداعية المنقذ (حسن البنا 1905-1949م)، فكان يتهرّب نحو أدب الدعوة وبيان الفكر، فقال مرة في تعريف الزعامة والقيادة الحزبية في موضع التعريف بعظمة الشيخ (حسن البنا) فقال: (جمع في شخصه ما تفرّق في الجماعة من مواهب)، دون أن يعلق، فقلت في نفس يومها 1987م 1407هـ: ((والله هذه هي روائع الدعوة الغزالية، وهذه والله هي الزعامة الحزبية بعينها في حسن البنا))، ووالله لو لم أكن إخوانيا في الفكر والتوجّه والروح والسلوك والثقافة والدعوة.. لوددتُ أن أكون إخوانيا.

والآن نأتي إلى هؤلاء القادة الحزبيين الجزائريين دونما استثناء أو انتقاء، فهم عندي كلهم في سلة واحدة (إسلامييهم ووطنييهم وعلمانييهم ويسارييهم..)، كونهم قليلي البضاعة العلمية والمعرفية والفكرية والثقافية، بل إن بعضهم جاهل أو ليكاد يكون في تربة الأمي ثقافيا وفكريا وعلميا، وقصارى علمه ومبلغ فهمه تلك المحفوظات القانونية والدستورية والإدارية التي تلقاها سماعا ومشافهة، ففي لقاء جمعني بقادة بعض الأحزاب الإسلامية باسطنبول عقب مؤتمر التغيير في فكر الشيخ المجدد عبد السلام ياسين مؤسس وزعيم جماعة العدل والإحسان المغربية، اكتشفت العجب العجاب من جهلهم وتدني مستواهم العلمي والثقافي، وفي كل حوار أو نقاش أو فكرة أو بيت شعر أو حقيقة تاريخية أطرحها، إلاّ ويستوقفني بعضُهم سائلا عن تفاصيلها حتى عييت منهم طيلة ذلك اليوم، وقلت لهم: (لِمَ لا تجتمعون يوما في الشهر أعلِّمكم وأعطيكم برنامجا تدرسونه حتى يرتفع مستواكم؟)، وفي لقاء مع زعيم حزب إسلامي كبير أردتُ مسامرته عندما جاء متأخرا ولحق إلى المطعم وبقي وحده، فقلت أذهب وأُعرِّفه بنفسي وأتحدث إليه، فما كان منه –وقد ظن أني من رجال الأمن المكلفين بتتبعه وهو لا يملك فراسة معرفة الرجال- إلاّ أن طردني بطريقة فجة، بعد أن منحني بطاقة التعارف، طالبا مني أن أنصرف وأتركه يأكل لوحده، فقلت في نفسي: أهكذا تكون معاملة الناس؟ وصحبت نائبا في حملته الانتخابية بعد أن ترجَّاني أن أصاحبه في حملته الانتخابية البرلمانية لسنة 2007م وصار أمينَ عام حزب جزائري عتيد الآن، وبالرغم من أدبه وحسن سمته وأخلاقه وكرمه وسخائه.. إلاّ أنه قليل الثقافة والمعرفة والفهم، فضلا عن ضيق الأفق والرؤية، ومن أين يأتي بها وهو –وسائر الزعماء الحزبيين- لم يطّلع على مئات الكتب والمؤلفات الأساسية لمهنته الحزبية من مذكرات الرؤساء ورؤساء الحكومات والدول والوزراء والقادة العسكريين والزعماء السياسيين وكتب التاريخ والصحافة والسياسة والإعلام وكبار الكتّاب والمحللين الاستراتيجيين..

إن هؤلاء لا يعرفون ولا يقدسون شيئا غير وسائل ووسائط الوصول إلى السلطة القذرة، التي لا يعرفون جزاء من يضيّع حقوقها وحدوده، ورحم الله عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين اختزلها في قوله: (لو أن بغلة أو شاة عثرت في نهر دجلة لكان عمر مسؤولا عنها يوم القيامة).

يا قيادة الجيش المحترمين، ويا أحفاد بن بولعيد وابن باديس، عليكم بهذه النصيحة التي كتبها من هو خير مني لمن هو خير منكم، لما بويع الخليفة الراشدي الخامس عمر بن العزيز بالخلافة أرسل إلى التابعي الجليل أبو سعيد الحسن البصري 23-110هـ رضيع لبن أم سلمة رضي الله عنها أم المؤمنين، يسأله المعونة فكتب على رقعة رسالته: (أما أهل الدين فلا يريدونك، وأما أهل الدنيا فلا تريدهم، وعليك بأهل الأحساب والأنساب فلهم في حسبهم ما يردعهم). أللهم اشهد أني بلغت.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • HOCINE HECHAICHI

    لولا عبارة "رجس الشيعة والنصيرية" الطائفية والعنصرية لكان المقال "علميا وفكريا وثقافيا وسياسيا"