الإبداع والذكاء الاصطناعي بين الوعد والوعيد!

تخيل شاعرًا يستعين بخوارزمية لاستحضار بحور الخليل، أو روائيًا يتجاوز عجزه الإبداعي بأداة مثل “ChatGPT”، فتنساب الكلمات كالنهر الرقراق..!
مع تغول الآلة، صار الذكاء الاصطناعي منافسًا داخل ميادين الأدب واللغة والفن؛ إذ تحول من مجرد أداة مساعدة إلى شريك رقمي يتعدى -بل يتحدى- حدود الإبداع المعروفة، فيثير بذلك تساؤلات عميقة بشأن مستقبل الفن والكتابة، وما إذا كان هذا التداخل سيثري المشهد الإبداعي أم يفقده بريقه الإنساني..؟!
لا يمكن أن ننكر اليوم أن قدرة الذكاء الاصطناعي على محاكاة الإبداع صارت مدهشة لدرجة أن بعض مخرجاته الفنية والأدبية قد أثارت جدلًا واسعًا. وعلى سبيل المثال، لوحات مثل “إدموند دي بيلامي” التي أنتجتها الشبكات التوليدية التنافسية (GAN) -والتي بيعت في “مزاد كريستيز” بمبلغ تجاوز الـ432,500 دولار- تطرح تساؤلات جادة، من قبيل: هل صار الفن المعاصر ينسج بخيوط الشيفرة البرمجية؟ وما دور الفنان حين يتداخل مع آلة قادرة على إعادة صياغة الأساليب التقليدية وتحيينها؟
ولم تقتصر التجارب على عالم الرسم فحسب، بل امتدت إلى إعادة إحياء عيون الأعمال الفنية؛ فـ”المشروع التالي لريمبرانت” استطاع تحليل أسلوب الرسام الهولندي المعروف، وإنتاج لوحة جديدة تحمل بين طياتها لمحات من الفن الكلاسيكي ممزوجة بلمسة عصرية..!
وفي ميدان الأدب، ظهرت أدوات مثل ChatGPT وSudowrite وDeepSeek لتساعد الكتاب على توليد الأفكار وتجاوز لحظات الحبسة الإبداعية؛ مما أثار جدلًا بشأن إمكانية أن يتحول الكاتب إلى مجرد مراقب لأوامر برمجية بلا إحساس..!
ومن منطلق أن “كل تقدم تقني هو بمثابة فأس في يد مجرم متوحش”، فإن من نافلة القول تأكيد الخيفة التي قد يوجسها أحدنا في نفسه حيال اندفاع الذكاء الاصطناعي نحو غزو عوالم الإبداع..! ومن الممكن أن يفرض هذا الاندفاع منافسًا جافًا، على قدر كبير من الدقة والإتقان، إلا أنه يظل عاجزًا عن نقل التجربة الإنسانية بكل تفاصيلها من شجون وشؤون وآلام وآمال..!
فإن كتب الذكاء الاصطناعي قصيدة فصيحة، فهل ستحمل شجون البارودي وشوقي والجارم، أم أنها ستكون صدى آليًا بلا روح؟! وهنا يجب أن نتذكر أن اللغة ليست مجرد حروف ترتب، بل إنها ذاكرة شعب ونبض تاريخه. وقد تضحكنا قصيدة آلية تجمع الفلسفة بالسخرية، لكنه أمر يدعو إلى الرثاء أكثر؛ لأن بصمتنا الإبداعية ضاعت بين أسطر الخوارزميات..!
إن التجربة الإنسانية شرارة تضيء الأدب والفن، وستبقى عصية على الآلة، مهما بلغت من تغول وتطور..! والجانب المشرق في الأمر هو أن الذكاء الاصطناعي قد يكون أداة تمكينية، من شأنها أن تفتح آفاقًا جديدة؛ إذ قد ننتقل من تشاؤمنا بأن تحل التقنيات الحديثة محل المبدع والفنان إلى تفاؤلنا بأن تمنح المبدعين والفنانين إمكانية تحليل النصوص والأعمال الكلاسيكية تحليلًا عميقًا لم يسبق له مثيل..!
يقول الأديب المصري نجيب محفوظ: “الخوف لا يمنع الموت، لكنه يمنع الحياة.” فهل نسمح للمخاوف أن تعيق تقدمنا وتقتل ما يحيا في دواخلنا بشأن الاستكشاف والاكتشاف، وما يحركه الفضول المعرفي؟
وانطلاقًا من قول أرسطو: “إن الفن تقليد للواقع”، تضيف تكنولوجيا اليوم: “وأنا أجعله أشمل وأعمق”، وفي هذا تأكيد على أننا نعيش في زمن تتسع فيه دائرة الإبداع، وتصبح الآلة رافدًا يغذي نهر العبقرية البشرية. فلنجعل من الذكاء الاصطناعي مرآة تعكس عبقريتنا، لا شبحًا يسرقها. وهذه دعوة لنعيد تعريف “المبدع”؛ لأننا نقف على أعتاب الغزو التقني، وثقتنا بأن الإبداع الأصيل ينبع من النفس البشرية، لكن الكيس الفطن من يسخر هذه الأدوات لخدمته، فلا هو مستبعدها، ولا هي مستعبدته..!