الإدمان الرقمي لدى الشباب.. عبودية طوعية وخطر صامت

لم تعد الهواتف الذكية مجرّد أدوات بين أيدينا، بل تحوّلت إلى عوالم مصغّرة نعيش فيها أكثر مما نعيش في الواقع. يكفي أن تدخل مقهى، أو تركب حافلة، أو تمرّ بفناء مدرسة، لتدرك أن الشاشات أصبحت الرفيق الأقرب والأكثر حضورًا في حياتنا. نحن لا نتحدث هنا عن تكنولوجيا محايدة، بل عن قوة رقمية تتحكم في سلوك الأفراد، وتعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية، وتصوغ عقول الأجيال الصاعدة بصمت، إن ما نشهده اليوم ليس مجرد تطور تقني، بل تحوّل ثقافي وسلوكي عميق، يقف الإدمان الرقمي في صلبه كأخطر ظاهرة غير مرئية تهدد توازن المجتمعات، وتستهدف بالدرجة الأولى فئة الشباب.
لقد أصبحت هذه الأجهزة الصغيرة تسرق أوقاتنا، تشتّت انتباهنا، وتغزو خصوصيتنا من دون أن نشعر، حتى بات كثير من المراهقين والشباب يعجزون عن قضاء بضع ساعات من دون العودة إليها، في ظاهرة توصف بـ”العبودية الطوعية”. تشير إحصائيات المركز الوطني للبحث في الإعلام الاجتماعي بالجزائر لسنة 2022 إلى أن أكثر من 80% من الشباب بين 18 و30 سنة يستخدمون الهواتف الذكية بمعدل يتراوح بين 5 إلى 7 ساعات يوميًا، يقضون أغلبها على تطبيقات التواصل الاجتماعي. هذا الاستخدام المفرط له تداعيات نفسية واضحة؛ فقد أظهرت دراسات محلية زيادة حالات القلق والأرق واضطرابات التركيز لدى الطلبة، مع تدنٍّ في الأداء الدراسي وتراجع في مهارات التواصل الواقعي، ما ينذر بأزمة تواصل اجتماعي حقيقية في المستقبل القريب.
80% من الشباب يستخدمون الهواتف الذكية ما بين 5 إلى 7 ساعات يوميا
ولا يختلف الوضع كثيرًا في بقية دول العالم، حيث يتّسع الخطر ليأخذ أبعادًا عالمية. ففي الولايات المتحدة، أفادت مؤسسة “Common Sense Media” بأن المراهقين يقضون أكثر من 7 ساعات يوميًا أمام الشاشات، ما دفع بعض الولايات إلى فرض قيود مشددة على استخدام الهواتف في المدارس. اليابان، من جهتها، أطلقت برنامجًا وطنيًا يشمل تنظيم استخدام الهواتف وتوفير دعم نفسي للطلبة، بينما أبدعت كوريا الجنوبية في إنشاء “مخيمات إزالة السموم الرقمية”، حيث يخضع الشباب المفرط في الاستخدام لبرامج إعادة تأهيل تشمل تدريبات ذهنية وجسدية لإعادة توازنهم الرقمي. أما في أوروبا، فقد كانت فرنسا سبّاقة إلى حظر الهواتف في المدارس الابتدائية والمتوسطة منذ سنة 2018، لتقليص التشتت الذهني وتحفيز الانتباه.
رغم وضوح المؤشرات، لا تزال الجزائر تفتقر إلى رؤية وطنية متكاملة لمجابهة هذا الخطر المتنامي. المدارس لا تتوفر على برامج توعية حقيقية، والمناهج التعليمية خالية من التربية الرقمية، بينما تفتقر الأسرة الجزائرية إلى دليل تربوي يساعدها في التعامل مع هذه الظاهرة. والنتيجة: شيوع أنماط استهلاكية غير صحية، ضعف التفاعل الأسري، وازدياد العزلة الاجتماعية بين أفراد الجيل الجديد. فالعديد من الأطفال والمراهقين أصبحوا يفضلون العالم الافتراضي على المحيط الواقعي، ما يخلق فجوة بين الأجيال، ويجعلهم أكثر عرضة للاضطرابات النفسية والسلوكية.
ومع ذلك، يمكن كبح جماح هذه الظاهرة إذا توفرت الإرادة والوعي الجماعي. على المدى القريب، يمكن إطلاق حملات وطنية للتوعية تستهدف المدارس والجامعات، تُرافقها دورات تدريبية لفائدة الأساتذة والمربين لتمكينهم من فهم الإدمان الرقمي وكيفية التعامل معه. يمكن أيضًا تشجيع الأسر على وضع “قوانين منزلية ذكية”، تعتمد على التوازن بين الاستخدام والإيقاف، وتوفير بدائل تربوية وترفيهية مثل الرياضة والأنشطة الثقافية. أما على المدى البعيد، فيتطلب الأمر إدماج التربية الرقمية في المقررات الدراسية، وإنشاء مراكز مختصة للعلاج النفسي والتربوي لضحايا الإدمان الرقمي، بالإضافة إلى تشجيع الابتكار التكنولوجي المحلي لتطوير تطبيقات تساعد على التحكم في وقت الشاشة وتحفّز الاستخدام الإيجابي. كما لا يجب إغفال دور الإعلام، الذي يجب أن يتحوّل من مجرد ناقل للمعلومة إلى قوة توعية مجتمعية، تقدم محتوى تربويًا يساهم في بناء ثقافة رقمية صحية ومتوازنة.
في الختام، لا شك أن التكنولوجيا، إذا أُسيء استخدامها، تتحول من نعمة إلى نقمة. الإدمان الرقمي ليس قدرًا محتومًا، بل خطر يمكن تجنّبه بالوعي، والتربية، والتشريعات الذكية. الهواتف الذكية ليست عدوًا في حد ذاتها، لكنها قد تصبح كذلك إذا غاب التوجيه والتوازن. إن بناء جيل متحكم في أدواته الرقمية، قادر على توظيف التكنولوجيا لصالحه لا أن يخضع لها، هو مسؤولية جماعية تبدأ من الأسرة ولا تنتهي عند المدرسة أو الدولة. علينا أن نتحرك اليوم، قبل أن يتحول الهاتف من وسيلة نافعة إلى سيدٍ يحكم حياتنا ويقود مستقبلنا نحو العزلة والصمت.