الإسلاميون وقرنٌ من المحاولة.. أفكارٌ ورؤية لم تتحقق

إن قناعتي اليوم، وبعد نصف قرنٍ من العمل الإسلامي في الداخل والخارج، هي أنَّ على مفكريِّ الحركة الإسلامية وقادتها ودعاتها التوقف لمراجعة الطروح التي انطلقت منها رؤيتهم للإصلاح والتغيير.
من المعروف تاريخيّا، أنَّ جوهر الفكرة التي قامت عليها دعوة الإخوان المسلمين، واستمدت منها حيويتها وانتشارها الواسع في مصر والعالم العربي، خرجت من رحم الرؤية التي جاء بها الإمام حسن البنا رحمه الله في أواخر عشرينيات القرن الماضي؛ أي قبل قرنٍ من الزمان تقريباً، وكان الدافع والقصد من وراء ذلك هو استعادة الخلافة الإسلامية، بعد أن أسقطها وقضى عليها كمال أتاتورك عام 1924، وأضحت بذلك الأمة المسلمة نهباً وكلأً مستباحاً للقوى الاستعمارية -وخاصة بريطانيا وفرنسا- لتقاسمها، بالشكل الذي أصبح عليه الحال بعد اتفاق سايكس بيكو.
كانت رؤية الشيخ البنَّا في حينها فكرةً دغدغت عواطف الكثيرين من شباب هذه الأمة ورجالاتها، وهذا ما عزز سرعة انتشارها في طول العالم العربي وعرضه.
لم يتوقف فهم أجيال هذه الحركة عند هذا الهدف، بل تطورت الأفكار بعد أن أصبحت إسرائيل كياناً لقيطاً وغدةً سرطانية تهدد دول المنطقة ومقدساتها الإسلامية، فكانت مستجدات الطروح لدى بعض مفكري الحركة الإسلامية أمثال الشهيد د. فتحي الشقاقي رحمه الله، هي أن قضية فلسطين يجب أن تكون هي الشغل الشاغل والقضية المركزية لتطلعات الحركة الإسلامية وأهدافها، ولكنّ الفكرة -رغم وجاهتها- إلا أنها لم تلق إجماعا عليها، بل أنها تسبّبت في إحداث تصدعات بين أبناء الحركة الإسلامية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وعليه؛ ظلت هذه المفاهيم تراوح مكانها لواقع مأزوم غابت شمسه عن الشروق منذ قيام هذا الكيان على أنقاض نكبتنا الأولى عام 1948، إلى يومنا هذا، حيث النكبة الثانية الكبرى التي توشك فيها شمس الوطن المنكوب والهوية الفلسطينية على الغروب!
ومع تعثر الحركة الإسلامية وعجزها عن حشد طاقات الأمة لإنجاز مشروع التحرير، تحرّكت جموع الإسلاميين باتجاه الأنظمة الحاكمة، متهمة إياها بالاستبداد، وعليه صار الهدف هو التخلص منها، والسعي للتربّع على سدة الحكم بدلًا عنها، ولعل هذا هو ما شاهدناه في ثورات الربيع العربي التي اندلعت في العديد من البلدان، ألا أنه -في نهاية المشوار- لم يُكتب لها النجاح، رغم الزخم وحالة الانتشاء والتمكين لها لبعض الوقت في دولٍ مثل تونس ومصر وليبيا.
اليوم، وفي مشهدية تقييم الأهداف والشعارات التي رفعتها، وحالة التشظي والانقسام التي تظهر عليها هذه الحركة الإسلامية الواسعة الانتشار إقليميّا وعالميّا بعد قرن من انطلاقتها، تفرض علينا أن نطالبها بضرورة التوقف لمراجعة الكثير من المفاهيم والمواقف التي صدَّرتها، وترتب عليها انفراط عقد أمتنا وخسارتها، إذ ظلَّت تراوح في مكانها، وغدت كالمنبت؛ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
ومن التوقيتات التي لا نختلف عليها، أنَّ أفكار البنَّا وتعاليمه جاءت في فترة كانت فيها معظم دول المنطقة تعيش تحت الحكم الاستعماري البريطاني والفرنسي، وأنَّ هذه الأفكار قد ساهمت في تخريج جيلٍ قوي البأس، من ناحية أخلاقه والتزامه الإسلامي ومشاعره الوطنية. وبفضل واقع تلك المرحلة التاريخية، تحررت بعض الدول والبلدان العربية والإسلامية، وأدرك المُستعمِر أنَّ بقاء الحالة الاستعمارية بالمنطقة، سوف تُضعف أو تطعن في مصداقية هؤلاء الحكام وشرعيتهم، ولذلك تبنى هذا المستعمر سياسة التحكم عن بُعد في إدارته وتعامله مع هذه الأنظمة الحاكمة، من ناحية توجهاتها وحماية مصالحه فيها. وبناءً على ذلك، جرت عملية إجلاء معظم المظاهر الاستعمارية وإبعاد شبح المواجهة التي تحرك جدلية الاحتلال والمقاومة.
اليوم، معظم من هم على رأس هرم السلطة من الحكام والملوك في بلداننا العريية والإسلامية لهم -للأسف- ارتباطات واتفاقات سرية أو علنية تحكم شكل العلاقة مع من كانوا يستعمرون بلدانهم، وتجمعهم بهم علاقات واسعة من التنسيق والتعاون الأمني والسياسي، وهذا شيءٌ ممكنٌ تفهُّمه في الكثير من السياقات، وقد أطلق عليه البروفيسور إسماعيل الفاروقي رحمه الله بـ”القابلية الاستعمارية “colonialism ability”.
إن الإشكالية التي أعقبت تلك الفترة لرؤية استعادة الخلافة، هي دخول القضية الفلسطينية على هذا الخط من ترتيب الأولويات، إذ إنَّ إسرائيل -الكيان الوليد- هي صنيعة استعمارية ودولة وظيفية أوجدها الغرب لعدة اعتبارات؛ أهمها:
أولاً: التخلص من الأقليات اليهودية من الخريطة الأوروبية التي ضاقت ذرعاً بها، فكان هذا التهجير والتطهير العرقي لليهود بأشكاله القسرية والطوعية، وكان عليه الموقف الذي باركه الجميع، بما فيه الولايات المتحدة الأمريكية.
ثانياً: إنَّ أمريكا نظرت إلى هذا الكيان كحاجة تتطلبها استراتيجيات الوضعية الاستعمارية الأمريكية الجديدة في المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية، إذ ورثت أمريكا ممالك وكيانات استعمارية سابقة بمنطقة الشرق الأوسط.
لقد وجدت أمريكا في إسرائيل كياناً يمكن الاعتماد عليه وظيفيًّا، ومن خلاله يمكنها تعزيز سطوتها وعصاها الغليظة لكلِّ من يحاول التمرد عليها أو التعرُّض لمصالحها الحيوية بالمنطقة.
لقد آن الأوان لنعترف بأننا كإسلاميين، قد أرهقنا أنفسنا في صراعاتنا ومحاولاتنا الطويلة للتغيير، هذا أولًا، وثانيّا؛ أننا استنزفنا -عن قصد- قدرات النظم الحاكمة، وألجأناها إلى ارتباطات وتحالفات غربية لحماية عروشها، وخلقنا بينها وبين جبهتها الداخلية جفوةً وفجوة يصعب جسرها من الشكوك والاتهامات، أضحت معها تحصيناتها الداخلية غير قادرة على الصمود والتماسك.
في الواقع، إنَّ إسرائيل فرضت نفسها كوطنٍ بديلٍ لليهود (المضطهدين) في أوروبا، وأنها الدولة القوية التي لا تخشى أحداً، كونها تضرب بسيف أميركا، وأن هناك واجهات إعلامية كبرى (صحف ومجلات وقنوات تلفزة) تقوم بالتستر على جرائمها، وتمنحها التبريرات والغطاء الأخلاقي لما ترتكبه من مجازر بحق الإنسانية وعدوانياتها الوحشية ضد الفلسطينيين.
ووجدت إسرائيل؛ الكيان الأوهن من بيت العنكبوت، كلَّ الإسناد والدعم العسكري من الولايات المتحدة، لتصبح حاملة طائرات أميركية متقدمة في عمق المنطقة، وهي مزودة بكلِّ القدرات القتالية التي تؤهلها لخوض الحروب على عدة جبهات، إذ أنَّ القواعد الأمريكية المنتشرة في معظم ربوع المنطقة، تمنحها التطمينات بأنها ضمن شبكة حمايتها، ويمكنها أن تجاهر بالقول لمن يستهدفها أنه (لا غالب لكم)!
إن أخطر إشكالية أوجدتها إسرائيل كمستجدّ استعماري، هي أنَّها نجحت في خلق عزلة بين حكام المنطقة وشعوبها، بما وضع هؤلاء الحاكمين في دول الطوق والجوار بين خوفين: التهديدات الإسرائيلية والتحركات الشعبية، وهذا -للأسف- تسبَّب في حالة من وهن الأنظمة الحاكمة، وهذه مسألة تستغلّها إسرائيل وتلعب على حبلها؛ باعتبار أنَّ ما تواجهه هو مجرد أنظمة لا تقف على أرضية صلبة، ولديها الكثير من حسابات المخاوف المتعلقة بخطر الهزيمة أو الانقلاب.
حقيقة، لقد آن الأوان لنعترف بأننا كإسلاميين، قد أرهقنا أنفسنا في صراعاتنا ومحاولاتنا الطويلة للتغيير، هذا أولًا، وثانيّا؛ أننا استنزفنا -عن قصد- قدرات النظم الحاكمة، وألجأناها إلى ارتباطات وتحالفات غربية لحماية عروشها، وخلقنا بينها وبين جبهتها الداخلية جفوةً وفجوة يصعب جسرها من الشكوك والاتهامات، أضحت معها تحصيناتها الداخلية غير قادرة على الصمود والتماسك.
وفي ظل هذا الخلل القائم للعلاقة بين الإسلاميين وأنظمة الحكم، أصبحت أنظار الإسلاميين تتقلب بين دعم النظام وحماية الوطن، أو التشفي بهزيمة الحاكم وخسارة الوطن.
لذلك، إذا أردنا هزيمة إسرائيل وحماية مقدّساتنا الإسلامية في الأرض التي باركها سبحانه للعالمين، فإنّ الواجب الديني والسياسي والأخلاقي واستراتيجيات التحرير القائمة أو التي يفكر فيها البعض من الإسلاميين، تتطلب النأي عن فكرة المواجهة بين الأنظمة الحاكمة وطلاب التغيير من الحركات الإسلامية.
وعليه؛ فإما أن يتوقف الإسلاميون عن وضع سهامهم بخاصرة هذا النظام أو ذاك، وإلا فإنَّ عليهم عدم الإفراط في التبشير بالنصر أو حتى الحديث عن حالة التمكين، التي يمكن أن تُقرِّبهم منه، ونحن نعيش أوضاعاً كارثية بعد فشل ثورات الربيع العربي في تحقيق طموحات التغيير.
إنَّ النصر على إسرائيل، لن يتأتى والأمة تحتضر، وشعوبها تعيش وضعية من اليأس والإحباط ليس لها سابقة في تاريخنا المعاصر، ولسان حال الجميع “ليس لها من دون الله كاشفة”، إنه الشعور بفقدان كلِّ شيء، حيث عزَّ النصير، ولحظة التعلّق بالسماء التي كابدها الكثير من الأنبياء والمرسلين.
إن حرب الإبادة والتطهير العرقي التي تجري في غزة والضفة الغربية، حيث أُصيب الجميع بالعجز والشلل التام؛ فالنظام العربي الرسمي وحتى في إطاره الإسلامي الواسع بما يمثله من 57 دولة، لم يتمكنوا خلال عدة قمم في الرياض والقاهرة من فتح معبر رفح لإدخال المساعدات الإغاثية والإنسانية، وكذلك كانت وقفات الشعوب في العالمين العربي والإسلامي دون مستوى الطموح والفاعلية المطلوبة للانتصار للمظلومية الفلسطينية.
إنَّ هذا الحال من الضعف والهوان الذي عليه مشهدية الأمة، يدفعنا للقول: متى يبلغ البنيانُ يوماً تمامه، إذا كنت تبنيه وغيرك يهدِّمُ؟!
ختاما؛ إن على الإسلاميين التخلي عن فكرة الصدام مع الأنظمة، وضرورة التركيز على البناء الداخلي، بهدف الحفاظ على قدرات الأمة، لحماية مقدساتها، والانتصار لقضيتها.