-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الإمام ابن باديس أقلقهم حيا وميتا

كمال أبوسنة
  • 741
  • 0
الإمام ابن باديس أقلقهم حيا وميتا

الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – واحد من كبار علماء الأمة المحمدية في العصر الحديث، هيأه الله عز وجل وصنعه على عينه ليخدم الجزائر بفكره الإصلاحي التجديدي، وجهاده العظيم الشامل المتواصل، وجزاء ما قدمه من أعمال عظيمة لوطنه، واعترافا بأفضاله الكثيرة، رزقه الله القبول وحب عموم الجزائريين، ويُستثنى من ذلك من أُشرب قلبه كره كل ما له صلة بالإسلام ومبادئه ورجالاته، وبغض مواريث الأمة المعاكسة للتقاليد الغربية المادية، والمخالفة لأعراف عبدة الأهواء والشهوات…
كتب أحدهم في وقت سابق بإحدى الجرائد مقالا يتهم فيه الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – والإمام محمد البشير الإبراهيمي –رحمه الله – والعلماء المصلحين –رحم الله من مات منهم وحفظ من هم على قيد الحياة- باتهامات غريبة من نسج خياله “المسرحي” ونسي هذا المخلوق الغريب أن أي محاولة لتشويه صور علماء الجزائر ومصلحيها لن تنجح لأن أباطيله المنشورة لا يصدقها إلا من كان في قلبه مرض على مذهبه الذي أكل عليه الدهر وشرب، ولن تصمد أمام براهين الحقائق التاريخية التي ترد عليه بوضوح فتُذهب باطله فإذا هو زاهق…

ومن غرائبه التي ادعاها في مقاله أن الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – مات وهو منبوذ من أهله، ولو أمعن النظر قليلا لعلم أن الشيخ توفي في بيت والده معززا مكرما يتولى والده وشقيقه المولود تمريضه في النهار، وفي الليل يتولى المهمة شقيقه عبد الحق، وقد كان يراسل من بيته العائلي، حيث كان يُمرّض ويُعتنى به، رسائله التوجيهيه إلى إخوانه العلماء، وآخر ما كتبه قبل وفاته بأيام رسالته الشهيرة في 14 أفريل سنة 1940 إلى الإمام محمد البشير الإبراهيمي، الذي نفي من تلمسان إلى أفلو، يهنئه على موقفه المشرف والشجاع حين امتنع عن تأييد فرنسا في الحرب العالمية الثانية إذ جاء فيها ما يلي:

” أخي الكريم الأستاذ البشير الإبراهيمي السلام عليكم، لقد بلغني موقفكم المشرف العادل، لقد صنت الدين والعلم فصانك الله وحفظك، عظم الله قدرك في الدنيا والآخرة”.

أما اعتماد هذا الكاتب غريب الأطوار على الرسالة التي أرسلها الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – إلى الإمام الطيب العقبي – رحمه الله – في 13 أوت سنة 1926 يخبره فيها اعتراضات والده على بعض نشاطاته، فهذا أمر يحدث بين كل أب وابن، فقد كان والده يرى من منطلق خوف أبوي فطري أن ابنه مقبل على معارضة دولة بأكملها جبارة لا ترحم من يناصبها العداء جهارا نهارا، ولهذه المعارضة مغارم كثيرة ستصيبه وتصيب عائلته الكبيرة، والنفوس مجبولة على حب السلامة، وقد كان والده في كل الأحوال سنده القوي بجاهه وماله، ولهذا أشاد الإمام ابن باديس – رحمه الله – بدور والده في حياته الذي حماه صغيرا وكبيرا على حد تعبيره إذ قال في خطابه في ختام حفل التكريم الذي خصه به إخوانه العلماء وتلامذته بمناسبة ختمه تفسير القرآن الكريم سنة 1938:

“إن الفضل يرجع أولا إلى والدي الذي رباني تربية صالحة، ووجهني وجهة صالحة، ورضي لي العلم طريقة أتبعها، ومشربا أرده، و قاتني وأعاشني، وبراني كالسهم، وراشني، وحماني من المكاره صغيرا وكبيرا، وكفاني كلف الحياة فلأشكرنه بلساني ولسانكم ما وسعني الشكر”.[ الشهاب4/14 شهر ربيع الثاني/جمادى الأولى سنة 1357هـ]…وللتذكير فإن الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – مدفون في مقبرة آل باديس مع آبائه وأجداده…فهل يُقال عن الإمام ابن باديس بعد هذا أن عائلته نبذته؟؟.

لقد أراد هذا المخلوق، الذي نطق بلسان غيره من المخاصمين للحركة الإصلاحية ومن بعدها للحركة الإسلامية المعاصرة، أن يشوّه صورة الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – في أعين الجزائريين الذين يقدرونه تقديرا كبيرا بمحاولة تجريح أسرته العريقة النسيبة التي لم تخلُ منذ القدم من عالم أو أمير أو سلطان، مُطْلِقا بعض الأحكام الساذجة بناء على أحداث ووقائع أخرجها من سياقها التاريخي مستعملا المقص والتركيب على هواه لينتج لنا مشهدا دراميا لا يوافق الحقائق باسم كسر الطابوهات والأوثان…

لقد ضحكتُ، ولكنه ضحك كالبكاء على رأي شاعرنا المتنبي، حين قرأت تحليل صاحبنا المغرم بالدراما التراجيدية حين زعم أن الإمام عبد الحميد بن باديس – رحمه الله –”توفي عن عمر 51 سنة متأثرا بهذه الضغوط النفسية من عائلته وبعض المقربين منه، حتى سارع رفاقه الذين وجدوا في موته طريقا لتقوية نفوذ الجمعية التي ازدادت امتثالا وخضوعا للقوانين الفرنسية الكولونيالية والاستفادة من توسيع مدارسها الخاصة، خاصة على مستوى ما كانت تدر على أصحابها من المال والجاه”..!
إنها – تالله – أحكام تُوزّع لاستغباء القراء، فهل تحوّل صاحبنا من كاتب مسرحي إلى طبيب اكتشف بعبقريته الطبية أن الإمام ابن باديس – رحمه الله – قد تسببت الضغوطات النفسية من أسرته والمقربين منه في وفاته، وددتُ لو أرفق صاحبنا هذا الكشف الجديد الذي ذهل عنه غيره بوثائق طبية تقوي زعمه المضحك الفكاهي..!

والحق أن أكثر المؤرخين ذهبوا، وبشهادة شقيقه الأستاذ عبد الحق الذي كان ملازما له في مرضه، إلى أن سبب وفاته كان شدة الإجهاد الناتج عن عمله المستمر في سبيل خدمة الدين والوطن، وحركته الدائمة في ربوع القطر الجزائري لنشر دعوة جمعية العلماء وتحقيق أهدافها الإصلاحية والثورية، ويُشاع مع هذا أن الإمام عبد الحميد بن باديس- رحمه الله- مات مسموما، ولكن هذه الإشاعة كذَّبها الأستاذ عبد الحق شقيق الإمام عبد الحميد، وسمعت هذا منه شخصيا، ومهما يكن من أمر فإن وفاة الشيخ لم يستفد منها سوى الاستعمار الفرنسي الذي كان يتابع نشاطه بحذر، ويترصد تحركاته في كل القُطر، ويتربص به الدوائر، أما إخوانه من العلماء الذين كانوا يعانون التضييق والنفي والحبس فقد أكملوا المسيرة بقيادة الإمام محمد البشير الإبراهيمي – رحمه الله – الذي انتخب رئيسا لجمعية العلماء خلفا لأخيه الإمام عبد الحميد – رحمه الله – وهو في منفاه بأفلو بسبب موقفه المعارض لتأييد فرنسا، ولو أراد لأكل من فوقه ومن تحته وما مسه نصب، ولنال أكبر المناصب بكلمة واحدة يقولها مداهنا ومنافقا كما فعل بعض الأذناب من الخائنين، ولكنه آثر الجهاد باللسان والقلم، وقيادة الحركة الإصلاحية والصبر على مغارمها في أصعب مرحلة بعد فقد توأمه الروحي الإمام عبد الحميد بن باديس، وحين أُعلنت الثورة كان من أسبق الزعماء الجزائريين تأييدا لها في بيان أمضاه مع الشيخ الفضيل الورتلاني – رحمه الله – في 02/11/1954 ونشرته الصحافة المصرية ووكالات الأنباء العالمية في 03/11/1954، ولم تتوقف بعد ذلك البيانات والبرقيات والمساعي الحثيثة لمساندة حركة الثورة التحريرية في داخل الجزائر الملتهبة، لا ينكرها إلا جاحد حاقد يرى الحقائق ويميل إلى إتباع الأباطيل.!
قَدْ تُنْكِرُ العَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ

وَيُنْكِرُ الفَمُ طَعْمَ الماءِ مِنْ سَقَمِ

لقد عاد الإمام محمد البشير الإبراهيمي- رحمه الله – إلى الجزائر المستقلة بعد جهاد طويل، ولم ينل “تقديسا رسميا” كما زعم صاحبنا، بل بسبب موقفه الحازم من السلطة في عهد الرئيس الراحل أحمد بن بلة- رحمه الله -، ونشره بيانه التاريخي المشهور الذي أغضب الحاكمين على رأس السلطة، أصابه الأذى المعنوي والمادي وتوفي في إقامته الجبرية…فأين تقديس السلطة له ؟؟

لقد بذل أبناء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالأمس، واليوم بعد استرجاع الجمعية حقها في النشاط، كل ما في وسعهم في خدمة البلاد والعباد، وهي كأي حركة إصلاحية بشرية غير معصومة، وما ادعى أبناؤها العصمة أبدا، إذ أصابت في حراكها وأخطأت، والمجتهد المصيب له أجران، والمجتهد المخطئ له أجر واحد، وأبناؤها يفرقون بين التقدير والتوقير والاعتراف بالجميل من جهة، والتقديس الفارغ وصناعة الأوثان من جهة أخرى، فابن باديس والإبراهيمي وغيرهما من العلماء هم بشر قدموا ما عندهم، وبذلوا ما في وسعهم، في سبيل الله والوطن، وإن أخطاءهم البشرية، مغمورة في بحار حسناتهم، ولا ينقص ذلك من قدرهم شيئا، وستبقى الأجيال ذاكرة لمآثرهم وسيرتهم، وحامدة لأعمالهم ومسيرتهم…وإن محاولة صاحبنا إيهام الناس أن أبناء جمعية العلماء استعملوا “سلطتهم” لتحويل ابن باديس إلى وثن وإخفاء “تعاون أسرته مع الإدارة الاستعمارية، والتغطية على بعض مواقفه المتخاذلة على الصعيد الوطني تجاه فرنسا” على حسب تعبيره، لن يصدقها إلا المتوهمون أمثاله الذين يتعاملون مع سيرة ابن باديس على مذهب الذي يقرأ “ويل للمصلين” ويسكت، لأن الإمام ابن باديس- رحمه الله- عاش حياته كلها معارضا لفرنسا…واقعيا في تعامله مع الأحداث والمستجدات…ينظر إلى مواضع خطوه قبل السير لأنه كان مسؤولا عن حاضر أمة ومستقبلها…يناور في مساحات المتغيرات المتعلقة بالوسائل والآليات ليربح مواقع جديدة تخدم دينه ووطنه، ولا يُهادن في مساحات الثوابت والمبادئ ولا يقبل المساومة فيها…ولا يحتاج هذا الكلام إلى شواهد لأن تراث الإمام عبد الحميد بن باديس –رحمه الله – وتاريخه ينطق بالحق ويسمع صوته كل منصف لا يجرمنّه شنآن قوم على أن لا يعدل سوى من جعل أصابعه في أذنيه..!

أما بخصوص أسرته، فهل يوجد فرد واحد منهم وقف مع فرنسا في ظلمها وطغيانها أو أعلن الولاء لها بعد انفجار الثورة التحريرية، ووقف ضدها..؟ اللهم لا..!

لقد كان تعامل كثير من الجزائريين – ومنهم أسرة الإمام ابن باديس وعلى رأسهم والده محمد المصطفى بن المكي الذي كان عضوًا في المجلس الأعلى للجزائر، ورئيسا لبلدية قسنطينة، ومندوبًا ماليًا – مع الإدارة الفرنسية من باب الاضطرار لتسيير أعمالهم ومصالحهم ومصالح غيرهم، وقد مات والد الشيخ عبد الحميد سنة 1951، ولم يُعرف عنه أنه ظاهر فرنسا ضد أي حق من حقوق أبناء الوطن، بل المعلوم والمشهود له أنه كان من المدافعين في مواقعه الإدارية عن حقوق الجزائريين، خلافا لبعض الأسماء التي استغلت مناصبها ووجاهتها ومكانتها عند فرنسا فساموا أبناء الجزائر سوء العذاب، فقطعوا الآذان، وهتكوا الأعراض، واغتصبوا الحقوق…إن صاحبنا الإعلامي المسكين فكّر ثم قدّر، ثم كتب يتهم أسرة الإمام عبد الحميد بن باديس ليشوّه صورة الشيخ ابن باديس، ويضرب جمعية العلماء بتزويره الحقائق، وتحريره للأباطيل..!

إن صاحبنا حاطب ليل، وباخس كيل، جمع بعض الافتراءات ليصنع بها سهاما مسمومة ليوجهها نحو خصومه، ولو صح منه أنه طالب حق ومعرفة، لاختلف طرحه، وتهذب أسلوبه، واعتمد منهج البحث العلمي القويم بدل منهج الاتهام والتشويه والتجريح طلبا للإثارة الإعلامية ليس إلا…هداه الله وعافاه من الأوهام النفسية..

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!