الإنسان ليس ريشة في مهبّ الرّيح
هناك من يعتقد خطأً أنّ كلّ شيء كتبه القلم وجفّت به الصّحف، وما هو كائن، لا مفرّ منه، والإنسان ريشةٌ في مهبّ الرّيح تفعل بها ما تشاء، فـ”الجبريّة” مثلا يعتقدون أنهم مكرهون على أقوالهم وأفعالهم، فليس لهم أن يتقدّموا عنها ولا أن يتأخّروا. والحقّ ليس كذلك؛ فالإيمان بالقدر لا ينفي عن العبد القدرة والحريّة والإرادة والاختيار والكسْب.. وكلّ ما يتعلّق بالتّكليف والعمل والمسؤوليّة والحساب؛ فالإنسان ليس “مسيّرا” تماما لا إرادة له ولا قدرة، وليس “مخيّرا” تماما طليق الإرادة والقدرة يفعل ما يشاء. بل مُيسّر لما خلقه الله له؛ يعمل بالمتاح ويزجر نفسه عن الخوض في القدر والغيب، ويترك التّسويف وقالةَ “لو فعلت كذا لكان كذا”. فالغيب مطويٌّ عن خلق الله محجوب عن إدراكهم لا يتغيّر بقوة أحد ولا يتوانى بضعف أحد. وحُكْم الرّبوبيّة لا ينسخ حقّ العبوديّة لأنّ المعبود واحدٌ. روى البخاري ومسلم عن عليّ -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- ذات يوم جالسا وفي يده عود ينكث به، فرفع رأسه فقال: “ما منكم من نفس إلاّ قد عُلم منزلها من الجنّة والنّار”. قالوا: يا رسول الله فلمَ نعمل؟ أفلا نتكّل؟ قال: “لا، اعملوا فكلّ ميسَّر لما خلق له”.
ظاهر الحُكم من عمل العبد وكدّه واجتهاده وسعيه والله يفعل ما يشاء ويقْدر. فلا أحد يخرج من قدر الله بقوّته، ولا يندّ عن مشيئته بتقديره. والخضر لا يغيّر أقدار الله، ولكنه يخبر عن طلاقة جريانها في ملكه قبل وقوعها. كما يفعل علماء الأرصاد الجويّة. بهذا المعنى برّر الخضر لموسى –عليه السّلام- احتمال عدم قدرته على تحمّل ما سيراه من مشاهد صادمة يحتاج معها إلى صبْر عظيم تكرّر ذكره في هذه الآيات سبع مرّات: “تصبْر، صابرا، صبْرًا، صبْرا، صبْرا، صبْرا، صبْرا، صبْرا”، فكيف يصبر رسول على منكر ظاهر! تراه عيناه بذريعة أنه درْسٌ علميّ للتّدريب على فقه النّوازل وفقه المآل؟ حتّى لو كان قد تلقّى إعذارا مسْبقا بسؤال إنكاريّ: ((وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا)) (الكهف: 68)، كأنه يقول له: إنّ ما ستراه عيناك لا يقبله قلبك لأنك سترى ما يبدو لك -من ظاهر فعله- منكرًا لا يسكت عنه رسولٌ، وستعْجل عليّ بطرح الأسئلة قبل أوان الكشْف عنها، وسيحرجك صمتي. فأثقل أنواع الصّبر ثلاثة: صبْرُ صاحب شرْعة ومنهاج على سماع فقه غيره أو رؤية تطبيقات من ليس على هدْيه، وصبْر عالم بالحقّ أمام وقائع تبدو منكرة مخالفة لضوابط المصلحة في شريعته، وصبْر داعية مصلح وجد نفسه محكوما بشروط الصّبر أمام مظاهر منكر وتسيّب وحركات فساد وهدم وقتل.. يعين سكوت أهل الحقّ على جريانها واستمرارها.
إذا تواجه ظاهر الفساد مع أحكام الشّريعة لم يكن لمؤمن من عذر سوى المبادرة بتغير المنكر في حدود استطاعته؛ باليد أو باللّسان أو إنكارا بالقلب؛ فشرائع السّماء كلّها تأمر أتباعها بتغيير المنكر إذا ما رأوه، وما أهلك بني إسرائيل سوى سكوتهم عن المنكر، وما لاحقتهم اللّعنة إلاّ لأنّهم كانوا لا يتناهون عن منكر يفعله بعضهم ويسكت عنه آخرون. ومن شروط الخيريّة في الإسلام القيّامُ بواجب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وما كانت أمّة الإسلام خيرَ أمّة إلاّ بأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، وقد اشترط الله علينا إحياء هذه العبادة لنستأنف خيريتنا المفقودة، فكيف يسكت موسى –عليه السّلام- ويصبر أمام ما تؤكّد المشاهدة البصريّة أنه شيء نُكُر، وهو من خرج من موطنه قاصدا “مجمع البحريْن” ليتعلّم ما يزيده من ربّه رشدا، فكان لقاؤه بالرّجل الصّالح قدرًا من أقدار الله، وصحبتهما عبادة، وطلب العلم عبادة، والبحث عن الهداية عبادة، وتلمّس سبل الرّشاد عبادة، والصّبر على تكاليف العبادة عبادة.