الاقتصاد الثقافي.. مورد يحتاج إلى إعادة هندسة الذهنيات !

هناك محاور عديدة يدور حولها الاقتصاد الثقافي وفق التوجهات الجديدة التي يعيشها العالم، خاصة أن الثقافة لم تعد تنحصر في بوتقة النشاطات الرامية للحفاظ على عادات وتقاليد قديمة أو إحيائها أو العناية بما توارثته الأجيال الجديدة عمن سبقها من الأجيال، بل الثقافة هي أداة حقيقة لتغيير الذهنيات والسلوكيات والعادات والمبادئ التي تنعكس على أساليب حياة الأفراد ورغباته وتفضيلاتهم وحتى مبادئهم.
معادلة صعبة
تخيل معي أننا قبل عقدين كنا نقوم باقتناء ملابس بعد تمزّق ما نملك، وصرنا اليوم نعتبر أن شراء سروال ممزق جزءٌ من السلوكيات الطبيعية، بل أن مثل هذا اللباس يعتبر مسايرة للموضة وأي انتقاد له يعتبر نوعا من الرجعية، والأجمل من كل هذا أن هذا النوع من الملابس تعتبر في السوق أغلى سعرا رغم أن المصانع تقوم بخياطتها بشكل عادي ثم تقوم بتمزيقها قبل طرحها في السوق.
إن متابعة الآخر من خلال مسلسلاتهم وأفلامهم ومآثرهم أفرز سلوكا استهلاكيا جديدا متأثرا بثقافات غير ثقافتنا التي تعتبر اللباس سترا للعورة والحائل فيها بين الحلال والحرام قواعد واضحة لاجمة للغرائز البشرية التي قد تتحوّل إلى الحيوانية المقيتة، لكن تأثرنا بالثقافات الأخرى جعلنا لا نرى أيًّا من هذا في ما نقوم به ونتحول إلى مستهلكين لما يُنتج لنا من دون أن نبحث عن الأسباب والغايات والأهداف من وراء كل هذا، فنحن نستعمل عقولنا فقط لنجد أحسن الطرق لنكون أفضل مستهلكين من دون أن نتجرأ على التفكير في طريقة لنتحول إلى منتجين.
مالك بن نبي لم يغفل ضرورة أن نفكّر بعقول وأدوات نابعة من المجتمع وتتلاءم معه، مبرزا نموذج شاخت والذي يمكن أن نربطه بتيهان المسلمين بين النظام الاشتراكي والرأس مالي من دون عودتهم إلى نظام نابع من خصوصية مجتمعاتهم، ما يجعلنا نؤكد دوما ضرورة تخصيص موارد ومجال أكبر للتفكير والمفكرين في مجتمعاتنا حتى نستطيع الوصول إلى بناء عالم أفكار يتلاءم وحاجاتنا وخصوصياتنا.
هذه الثقافة ترسخت في اللباس لكنها موجودة أيضا في مجالات أخرى جعلتنا نتميز كأفضل مستهلكين في العالم، وهي مرتبة نحصل عليها باستمرار ما دمنا نفضِّل استهلاك كل ما ينتجه الآخر من دون تفكير، فمنّا المواد الأولية ومنهم المنتجات، منا الاستهلاك ولهم الحصول على الإرباح وباستمرار .
هل أنا رجعيّ؟!
أعلم أن المتابعين للموضة والمتعودين على اقتناء أغلاها سيصفون ما كتبته بالرجعية والتخلف، فكيف أجرؤ أن انتقد مسلَّمة في مجتمعاتنا قوامها أن كل ما يأتينا من وراء البحر هو تقدُّم، وكل رفض له سيكون بالتأكيد رجعية.
ولأجيب على هذا الطرح الذي أحترمه دون أن أقبله إلا بالقول إن تجليات العولمة هي سبب الاختلاف الجوهري بين ما يراه المبهورون بمنتجات الحضارات الأخرى وبين ما أطرحه، والفيصل هنا والسؤال الجوهري هو: من المستفيد من ترسيخ هذا الطرح؟ الجواب بسيط جدا، أبحث عن الذي يستفيد ماديا تجد الجواب، فمصانع الألبسة والأغذية والسيارات والمجوهرات تقع في الضّفة الأخرى من البحر وإن كنا نحن المستهلكين فهم المنتجون، وإن كنا نحن الدافعين للمال فهم القابضون له، وإن كنا نحن الأغنياء بالثروات الباطنية الربانية فهم المستغلون لها، وإن حاولنا الاستيقاظ صبّوا علينا وابلا من الإشهار والتأثير المباشر وغير المباشر بالإعلام والفن، وغيرها من الأساليب لنبقى تابعين ثقافيا ومنه استهلاكيا لهم، فرجعيتي تحاول أن تقول: ماذا لو حاولنا تسويق أكلنا مكان أكلهم ومشروباتنا مكان مشروباتهم وألبستنا مكان ألبستهم؟ الهالة التي صنعوها ستجعل الأمر شبه مستحيل وأيّ اختراق سيواجَه بأفلام ومسلسلات وبرامج وحملات تجعل ما نقترحه مرادفا للرجعية والتخلف .
استحضار مالك بن نبي واجب
في هذا السياق وجب استحضار أفكار مالك بن نبي الذي يؤكد أن من أكبر مشاكلنا هو “عالم الأفكار” المرادف للثقافة؛ فهو الذي يشكل عائقا حقيقيا أمام محاولتنا للوصول إلى إعادة بناء حضارتنا التي غُيِّبت بعد الموحدين لأنها تؤثر بشكل مباشر في عالم الأشخاص فعالم الأشياء، ومنه فبن نبي مؤمن أن التغيير يبدأ من تغيير الأفراد والأفكار الموجودة في المجتمع خاصة تلك المميتة، لأن توفر عناصر الحضارة لا يصنعها فالتراب والإنسان والوقت كانوا ولا يزالوا موجودين لكن المفعِّل -الذي اعتبره بن نبي دينيًّا من دون أن يوضح طريقة عمله- هو الأساس في البناء الحضاري.. بن نبي لم يغفل ضرورة أن نفكّر بعقول وأدوات نابعة من المجتمع وتتلاءم معه، مبرزا نموذج شاخت والذي يمكن أن نربطه بتيهان المسلمين بين النظام الاشتراكي والرأس مالي من دون عودتهم إلى نظام نابع من خصوصية مجتمعاتهم، ما يجعلنا نؤكد دوما ضرورة تخصيص موارد ومجال أكبر للتفكير والمفكرين في مجتمعاتنا حتى نستطيع الوصول إلى بناء عالم أفكار يتلاءم وحاجاتنا وخصوصياتنا .
غزة والمقاطعة والتحولات الثقافية
ما يحدث في غزة صنع لدى الغرب لأول مرة منذ سيطرت الرأسمالية تخوفا من تأثير محرقة غزة على المستهلِك الإنسان، وإلى حد الآن لا يمكننا أن نجزم كم هي المدة التي يحتاجها الإنسان لتتغيَّر قناعاته المؤثرة في سلوكه الاستهلاكي، رغم أن المؤشرات الواردة تؤكد تأثرا كبيرا في حجم المبيعات لدى عديد البراندات العالمية في الأغذية والمشروبات وحتى الألبسة، لكن هذه الماركات تعتمد إلى حد اللحظة على استحالة تغيّر سلوك مدمنيها في مدة سنة، وهي الفترة التي تقدِّر الدراسات أن محرقة غزة ستستغرقها، وأن هذه البراندات ستعوِّض كل ما خسرته خلال أشهر قليلة قد لا تتجاوز 6 أشهر معتمدين على تأثير الإدمان لدى مستهلكيهم، لأن نوعية الأكل والشرب واللباس تحدِث لدى مستهلكها حالة إدمان حاد، تجعله -وإن انقطع لمدة- يعود بشراهة ليطفئ نار إدمانه، وهذا لم يكن إلا لأن الثقافة تحكم كل تصرفاتنا وكل أرباحهم
ما هي الثقافة إذن؟!
الثقافة ليست أفلاما ومسلسلاتٍ وأغاني، وليست الرقص والمسرح والموسيقى، ليست نوعية مأكولات ومشروبات وألبسة، فهذه منتجات الثقافة وانعكاساتها في الواقع، الثقافة هي القناعات التي نعيش نحملها، ونعيش بها وندافع عنها وإن تطلَّب الأمر الموت من أجلها، هم فهموا هذا فسوَّقوا ما برمجنا لنكون مستهلكين مطيعين غير قادرين على أن نقول “لا لمنتجاتهم”، من لم يتحرر من منتجاتهم لن يستطيع تحرير عقله من أفكارهم وإن حاول.