الانزلاق: من السوربون إلى هارفارد !

تعود نشأة جامعة السوربون العتيقة إلى القرون الوسطى، وكانت شهرتها مرتبطة بالعلوم الانسانية، وهي الجامعة التي عرفت في وقت مضى بـ”جامعة باريس”. وبعد أن ذاع صيتها عالميا قُسّمت قبل أكثر من نصف قرن، ثم أدمجت معها مؤسسات جامعية باريسية أخرى عام 2018، واستبدل اسمها بـ “السوربون الجامعة Sorbonne Université”، بهذا الترتيب، وليس Université La Sorbonne . ومن شأن هذا التغيير تعزيز المكانة العلمية لجامعة السوربون العتيقة التي لم تعد كما كانت، وهذا أقل ما يقال فيها بعد أن تهاوى موقعها في التعليم العالي العالمي.
حال السوربون اليوم
يعتقد الكثير أن مكانتها كانت ولاتزال مرموقة، ومن الخمس جامعات الأوائل في العالم، مثل جامعات أكسفورد وكمبريدج البريطانيتين وهارفارد الأمريكية، بينما صنفت سنة 2010 في المرتبة 186 ضمن ترتيب الجامعات في العالم ! ولذا كانت عملية الدمج التي تمت عام 2018 عملية نجدة جعلت مرتبتها تقفز عام 2021 إلى 83، ثم إلى المرتبة 60 عام 2023، وإلى 63 عام 2025. وسبب هذا التحسن في الترتيب هو انضمام الجامعات العلمية الراقية إلى السوربون إذ تراوح ترتيب الاختصاصات العلمية فيها اليوم بين 15 و 46. بمعنى أن التقدّم اللافت للسوربون في التصنيفات الجامعية العالمية لا يُعبّر بشكل مباشر عن مستوى جامعة السوربون الأدبية القديمة (باريس 4)، بل هو نتيجة لاندماجها مع جامعة مثل جامعة باريس 6، وهي مؤسسة ذات سمعة عالية في العلوم الدقيقة (الرياضيات، الفيزياء، المعلوماتية، علم الأحياء…).
لا بد أن نلاحظ أن الاسم التاريخي “السوربون” يعدّ رمزًا قويًا، مرتبطًا بتقليد فكري طويل. وهذا ما جعل مثلا أبو ظبي تشتريه بأموال طائلة في مطلع الألفية حين أسست “جامعة السوربون-أبوظبي” مشترطة احتكار الاسم “الهالة”وألا يتم تأسيس أي جامعة أخرى تحمل اسم “السوربون” في منطقة الشرق الأوسط (عدا في أبو ظبي). وقد أدى هذا الشرط آنذاك إلى احتجاج عدة فئات من المجتمع الفرنسي على قبول هذا القيد غير المشرف لفرنسا، غير أن الحكومة الفرنسية فرضت احترام الصفقة خدمة “للمصالح العليا للدولة الفرنسية” حسب زعمها. ولسوء حظ الجميع أن رمز “السوربون” فقدَ هالته العالمية وصارت هذه الجامعة الباريسية أقل بروزًا من الجامعات الأنكلوساكسونية مثل أوكسفورد وكمبريدج وهارفارد، بل وحتى من جامعات فرنسية أخرى.
خلاصة القول إن اسم “السوربون” لا زال يحتفظ برمزية تاريخية وأكاديمية، صارت غير مستحقة، خاصة في العلوم الإنسانية والعلوم الأساسية. لكن الجامعة لم تعد تهيمن على المشهد الجامعي العالمي كما كان حالها في السابق، وذلك بسبب المنافسة الدولية، وتنوع العرض الجامعي، والتغيرات الداخلية في النظام الجامعي الفرنسي.
وماذا عن هارفارد؟
تم تأسيس جامعة هارفارد الأمريكية في مطلع القرن السابع عشر، ومكانتها ظلت رائدة إلى اليوم. ففي تصنيف شنغهاي السنوي العالمي، صنفت الأولى عبر العالم خلال 22 سنة متتالية. ولا تزال تُعدّ مؤسسة مرجعية عالمية، تتصدّر التصنيفات في العديد من التخصصات. ويتجاوز مبلغ الهبات والموارد المالية التي تحصدها 50 مليار دولار. لكن منذ ظهور طوفان الأقصى شُنّت عليها حملات شرسة بسبب موالاة عدد كبير من المنتسبين إليها (طلبة وأساتذة) للقضية الفلسطينية. وتم الضغط على رئيستها حتى استقالت في جانفي 2024. ومنذ تولي ترامب الحكم زاد الضغط وسحبت الحكومة تمويلاتها (حوالي 3 ملايير دولار) وتدخلت في شؤونها الداخلية فيما يخص آلاف الطلبة الأجانب المسجلين فيها. ووصلت القضية مؤخرا إلى القضاء الذي لم يبت فيها نهائيا حتى هذه الساعة.
إقرأ أيضا – “الجامعة الأمريكية باتت هدفا في ظلّ ثورة ترامب الشمولية على مؤسسات المجتمع المدني”
وقد أثار هذا الوضع الذي تعيشه هارفارد سؤالًا يدعو للتأمل: إذا كانت هارفارد – الغنية، والعريقة، والمبجلة عالميًا – مستهدفة بهذا الشكل البشع، فماذا عن الجامعات الأخرى في أمريكا التي تجرؤ على أن تظل منفتحة؟ أي حماية يمكن أن تنجيها؟ يرى المتابعون أن ما نشهده اليوم “ليس مجرد تغيير في سياسة الهجرة، أو صدام بين جامعة وإدارة. نحن نمرّ بمرحلة مفصلية تُعاد فيها صياغة التعليم نفسه وفق خطوط أيديولوجية… إن الأمر لا يتعلق بهارفارد وحدها، بل بمستقبل التعليم العالي في العالم”.
التعاون مع جامعات الغرب
صار التعاون مع المؤسسات الغربية يخضع لرقابة صارمة في مجال التعليم العالي، كما تجلى ذلك عند انطلاق الحرب الروسية الأوكرانية. ومن المعلوم، أنه غالبًا ما تتم مراقبة الطلبة في الخارج من خلال الشبكات القنصلية والوسائل الرقمية. ولم تعد الجامعة فضاءً للنقد وتبادل الأفكار، بل امتدادًا لأيديولوجيا الدولة التي تأوي الجامعة. واتضح هذا الأمر أكثر في الغرب بعد طوفان الأقصى.
فطوال القرن العشرين إلى عهد قريب، استخدمت الولايات المتحدة جامعاتها “كأدوات للقوة الناعمة. فقد صدّرت برامج مثل منح فولبرايت ومارشال القيمَ الأمريكية، واستقبلت المواهب الأجنبية، وساهمت في تنمية الولاء لها العابر للحدود”. ويضيف الخبراء أن العلم المفتوح والحرية الأكاديمية، والتعاون العابر للحدود كانت في الماضي جزءًا لا يتجزأ من الدبلوماسية الثقافية الأمريكية. لكن هذا النموذج لم يعد قائما.
كان الناس ينظرون إلى الجامعة في الغرب على أنها ملاذ للبحث الحر، ولحرية الفكر، وللوازع الأخلاقي وللسعي وراء الحقيقة. “لكن في عصر الرقابة المشددة، والتحكم الرقمي، والسيطرة الإيديولوجية، أصبح هذا الملاذ سرابًا”.
ولذلك يدق الخبراء هذه الأيام ناقوس الخطر ، ويردّدون أنه حان الوقت لتجديد التأكيد على أهمية دور الجامعات، والقيم التي يجب أن تدافع عنها. وتتجلى هذه الحاجة الماسة بشكل خاص في طلب وزارة الأمن الداخلي الأمريكية من جامعة هارفارد تقديم تقارير عن أنشطة الاحتجاج التي يشارك فيها الطلبة الأجانب، كشرط للاحتفاظ بطلبتها وبتبادل الزوار.
مقارنة سريعة
بدأت تظهر تداعيات هذا الوضع على جامعة هارفارد ومكانتها حيث أظهر آخر تصنيف (2025) أنها أصبحت تحتل المرتبة الرابعة في التصنيف العالمي بعد أن كانت تتربع خلال أزيد من عقدين على المركز الأول. ومع ذلك تحاول هارفارد مواصلة جذب أفضل الطلبة من جميع أنحاء العالم، و أكثر الباحثين تأثيرًا. كما أن هناك شبكة مؤثرة لخريجيها (منهم رؤساء دول، وحاصلون على جوائز نوبل، ورؤساء تنفيذيون لشركات متعددة الجنسيات…). وهذا أمر يدعم وجودها واستقرارها ومكانتها إلى حدّ معين.
إقرأ أيضا – إحتجاجات الجامعات الأمريكية: “لا شك أن هذا الجيل يمتلك رؤية مختلفة للمسألة الفلسطينية”
وكما ذكرنا آنفا فموارد هارفارد تفوق 50 مليار دولار. في حين أن موارد كمبريدج تقدّر بـ 10 مليار دولار، وأكسفورد بـ 9 ملايير دولار، بينما لا تتجاوز موارد السوربون مليار أورو واحد. ويلاحظ الخبراء أن التسيير في الدول الأنكلوسكسنية مرن خلافا للتسيير الفرنسي البيرقراطي. وتظل في الوقت الراهن الحرية الأكاديمية في أكسفورد وكمبريدج أعلى مما هو عليه الحال في السوربون وهارفارد.
ويلخص الخبراء تقيم الوضع بعلامة على 5 في هذه الجامعات الأربعة كما يلي : التمويل والحوكمة والبحث العلمي 5 /5 لهارفارد و 4/5 لأكسفورد وكمبريدج. أما السوربون فتتراوح علامتها بين 3/5 و 2/5. أما في مجال الحرية الأكاديمية الآن فتشترك السوربون وهارفارد في علامة محصورة بين 2/5و 3/5، بينما تتفوق عليهما أكسفورد وكمبريدج وتحصلان على العلامة 4/5.
لكل هذه الأسباب يواصل الجامعيون والباحثون في عدد كبير من الجامعات العالمية التحذير من هذا السقوط الذي أصاب ويصيب الجامعات الرائدة في العالم وعلى رأسها جامعة هارفارد.