-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

البداية‮ ‬والنهاية

البداية‮ ‬والنهاية

بقلم‮: ‬ابن‮ ‬خلدون: IBN‭-‬KHALDOUN@MAKTOOB‭.‬COM

‭ ‬إن مؤيدي واشنطن ومعارضيها صاروا متفقين أكثر من أي وقت مضى، على أن المكانة الاستراتيجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط آخذة في الاهتزاز والتراجع. وأن كبار القادة العسكريين الأمريكيين أبلغوا البنتاغون سرّا ومنذ السنة الماضية بأن الوضع لم يعد محتملا، رغم إصرار‮ ‬بوش‮ ‬وقتها‮ ‬على‮ ‬إبراز‮ ‬مستوى‮ ‬التفاؤل‮ ‬بالانجازات‮ ‬في‮ ‬العراق‮.‬قبل الانتخابات الأخيرة للتجديد النصفي لأعضاء الكونغرس الأمريكي صرح الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب قائلا: »… أكره أن أفكر كيف ستكون حياة ابني إذا فقد الحزب الجمهوري غالبيته في مجلسي النواب والشيوخ«. وقد ردّ الرئيس بوش الإبن على والده عبر شبكة »أي.بي‮.‬سي‮ ‬A‭.‬B‭.‬C‮« ‬التلفزيونية‮ ‬غاضبا‮: »‬يجب‮ ‬ألا‮ ‬يتكهن‮ ‬على‮ ‬هذا‮ ‬النحو،‮ ‬كان‮ ‬عليه‮ ‬أن‮ ‬يطلبني‮ ‬قبل‮ ‬ذلك‮ ‬لأقول‮ ‬له‮ ‬إنهم‮ ‬لن‮ ‬يفوزوا‮«‬‭.‬

وصدقت مخاوف جورج بوش الأب، وخابت تأكيدات جورج بوش الابن، وفاز الديمقراطيون، ودفع الجمهوريون ثمن إصرار رئيس لا يقدر عواقب الأمور. فكما يذكر الصحافي المحنك بوب وودوارد، مفجر قضية ووترغيت مع فرانك برينشتاين في السبعينيات من القرن الماضي، في كتابه تحت عنوان »حال نكران« أن لقاء عقد عام 2005 في البيت الأبيض بين بوش والمشرعين الجمهوريين، حاول خلاله الرئيس نفي أي شك حول إصراره على التفوق في العراق، حيث قال: »لن أنسحب حتى لو لم يبق معي سوى لورا (زوجته) وبارني (كلبه)«. واليوم وصل بوش إلى هذه المرحلة، فلا يكاد يجد من‮ ‬يقف‮ ‬معه‮ ‬غير‮ ‬لورا‮ ‬وبارني‮…!‬

لقد راودت بوش الابن أحلام يقظة مفادها أنه هو من سيقود المشروع الاستراتيجي الإمبراطوري الأمريكي نحو التجسيد. هذا المشروع الذي يحمل اسم »الخطة من أجل القرن الأمريكي الجديد« والذي سبق وأن نشرت تفاصيله عام 1997 في مجلة ويكلي ستاندرد Weekly Standard وكان يرمي إلى أمرين. الأول: أن تتحول الولايات المتحدة إلى قوة إمبراطورية عالمية تسيطر وتحكم العالم بقوانينها. والثاني: وضع برنامج إسرائيل لمكافحة الإرهاب في قلب السياسة الخارجية الأمريكية. فلما جاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 ارتمى المسؤولون الأمريكيون بنوع من التهور ودون حساب للعواقب في أحضان هذه الخطة، وأخذوا يسابقون الزمن لتجسيدها. فكان العراق بعد الضربة الموجهة لأفغانستان البداية الفعلية للسيطرة على القرن الجديد، أو القرن الواحد والعشرين. لكن يبدو أن العراق كان البداية والنهاية.

تخوفات جورج بوش الأب كانت في محلها بالنظر للتصريحات الجديدة لصقور البيت الأبيض ممن كانوا من مؤيدي الحرب ثم انقلبوا على الرئيس بوش. فهذا ريتشارد بيرل، رئيس مجلس سياسات الدفاع الأمريكي المنحاز جدا لإسرائيل، يقول إنه »ما كان ليؤيد الحرب لو كان يعلم مدى تردي مستوى أداء إدارة بوش في التعامل معها ومع نتائجها«. وهذا ريتشارد هاس، المسؤول السابق في كتابة الدولة ورئيس مجلس العلاقات الخارجية بنيويورك، ينشر دراسة مهمة في ديسمبر 2005 في مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية يقول فيها »إن زمن الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط انتهى، وبدأت حقبة جديدة في تاريخ المنطقة الحديث، وسوف يرسمها ممثلون جدد وقوى جديدة تتنافس على النفوذ. وحتى تستحوذ واشنطن على المنطقة فسوف يكون عليها أن تعتمد على الدبلوماسية أكثر من اعتمادها على القوة العسكرية«. ودون الاسترسال في الآراء الكثيرة من هذا القبيل، نقول إن مؤيدي واشنطن ومعارضيها صاروا متفقين أكثر من أي وقت مضى، على أن المكانة الاستراتيجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط آخذة في الاهتزاز والتراجع. وأن كبار القادة العسكريين الأمريكيين أبلغوا البنتاغون سرا ومنذ السنة الماضية بأن الوضع لم يعد محتملا، رغم إصرار بوش وقتها على إبراز مستوى التفاؤل بالانجازات في العراق. وأن هؤلاء القادة العسكريين كانوا يلحون على تغيير كامل لطابع مهمتهم بحلول نهاية عام 2005: »فإما الضوء الأخضر بهجوم طاحن ضد كل المقاتلين، أو إعادة انتشار توفر الحماية للجيش الأمريكي وتعده للانسحاب«. لكن غباء إدارة بوش لم ييسّر لها من الحلين لا هذا ولا ذاك. وقد يكون بوش قد تأثر في قراراته المخالفة لما نصح به قادته العسكريون بما قرأه في كتاب »القائد المطلق« للبروفيسور إليوت كوهن أستاذ التاريخ العسكري بجامعة جونز هوبكنز ومدير مركز الدراسات الاستراتيجية، الذي نشره عام 2002 ويتحدث فيه عن كبار السياسيين الغربيين الذين تفوقوا في زمن الحرب لأنهم تجاهلوا أو تجاوزوا قادتهم العسكريين. وهو الكتاب الذي لاقى رواجا كبيرا بعدما شوهد الرئيس بوش يقرأه في إحدى إجازاته قبل أشهر من غزو العراق. ما لم يدركه بوش أن كوهن‮ ‬تحدث‮ ‬عن‮ ‬كبار‮ ‬السياسيين‮ ‬الغربيين‮ ‬الذين‮ ‬تجاوزوا‮ ‬قادتهم‮ ‬العسكريين‮. ‬وبوش‮ ‬لم‮ ‬يكن‮ ‬يوما‮ ‬من‮ ‬كبار‮ ‬السياسيين‮ ‬حتى‮ ‬يقتدي‮ ‬بهؤلاء‮. ‬وكان‮ ‬الأجدر‮ ‬له‮ ‬العمل‮ ‬بنصيحة‮ ‬قادته‮ ‬العسكريين‮.‬

واليوم، كما يقرّ الكثير من المحللين حسمت نتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة الخيار العسكري الأمريكي المحتمل ضد إيران بسبب ملفها النووي، إذ لم يعد يحتل مكانة متقدمة في الأجندة الأمريكية، وإن لم يكن قد استثني بصفة نهائية. وحسمت مسألة الوجود الأمريكي في العراق الذي سيبدأ في التلاشي تدريجيا. وحسمت مسألة الشرق الأوسط الجديد الذي ستكون طبعته بأقل عدد ممكن من البصمات الأمريكية. وربما ستعرف المنطقة لاعبين إقليميين ودوليين في محاولة لملء الفراغ الاستراتيجي الذي يتركه تقلص الدور الأمريكي في المنطقة. وإذا كنا لا نجزم‮ ‬بشيء‮ ‬في‮ ‬هذه‮ ‬المرحلة‮ ‬المبكرة‮ ‬جدا،‮ ‬فإننا‮ ‬يمكن‮ ‬أن‮ ‬نستقرئ‮ ‬ما‮ ‬يلي‮:‬

1 . إذا أخذنا تجربة الهزيمة الأمريكية في فيتنام في الحسبان، فإن الدور العسكري المنفرد لأمريكا في العراق سيتقلص. ومن الفرضيات التي يطرحها البروفيسور إليوت كوهن في مقال في الوول ستريت جورنال Wall Street Journal أن تجمع القوات الأمريكية في قواعدها وترك الحرب الأهلية تأخذ مجراها، أو تنصيب عسكري قوي على رأس العراق، في إشارة لعودة لحديث سابق عن إمكانية انقلاب عسكري ضد حكومة المالكي، أو المضي قدما في خطة تقسيم العراق. ويعترف كوهن أن هذه الاقتراحات إما بائسة أو خيالية.

2 . تراجع أمريكا عن لعب دور المتفرد والمهيمن في الشرق الأوسط، سيورث مراكز دولية أخرى بعضا من مزايا ومكاسب واشنطن في المنطقة. لكن زيادة في التحفظ نقول إن الولايات المتحدة ستظل لاعبا مهما في المنطقة، فهي لن تتخلى عن هذا الدور مطلقا. كل ما ستفعله هو وقف غطرستها‮ ‬وغبائها‮ ‬في‮ ‬العراق‮.‬

3 . سيتراجع دور إسرائيل كنتيجة حتمية لتراجع الدور العسكري الأمريكي. وقد يبدأ ذلك بلجمها وإجبارها على إنهاء احتلال الأراضي العربية. أو على الأقل العودة إلى طاولة المفاوضات الجادة ومفاوضات الحل النهائي.

‮ ‬4‮ ‬‭. ‬الدور‮ ‬الإيراني‮ ‬سيتنامى،‮ ‬خصوصا‮ ‬بعد‮ ‬استفادته‮ ‬من‮ ‬ضعف‮ ‬الموقف‮ ‬الأمريكي‮ ‬الذي‮ ‬تجلى‮ ‬من‮ ‬خلال‮ ‬إجراء‮ ‬كوريا‮ ‬الشمالية‮ ‬تجربتها‮ ‬النووية‮ ‬دون‮ ‬عواقب‮ ‬تذكر‮.‬

5 . ستلعب القوى الإقليمية المهمشة دورا متعاظما. فعلاوة على إيران وسوريا اللتين دعا تقرير للجنة الحكماء برئاسة وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر إلى إشراكهما في معالجة الوضع بالعراق، سيعرف الدور التركي من جهته فاعلية أكبر في القضايا التي تخص تركيا وما يجري على‮ ‬حدودها‮ ‬سواء‮ ‬بالبلقان‮ ‬أو‮ ‬القوقاز‮ ‬أو‮ ‬الشرق‮ ‬الأوسط‮. ‬وسيكون‮ ‬الخاسر‮ ‬الأكبر‮ ‬وقتئذ‮ ‬هم‮ ‬الأكراد‮ ‬الذين‮ ‬ساروا‮ ‬في‮ ‬نهج‮ ‬العمالة‮ ‬للمحتل‮ ‬الأمريكي‮. ‬

‮ ‬6‮ ‬‭. ‬كما‮ ‬سيتعاظم‮ ‬دور‮ ‬المنظمات‮ ‬الإسلامية‮ ‬سواء‮ ‬منها‮ ‬الشيعية‮ ‬أو‮ ‬السنية‮ ‬من‮ ‬خلال‮ ‬التحالفات‮ ‬والتحالفات‮ ‬المضادة،‮ ‬والتي‮ ‬قد‮ ‬تنتهي‮ ‬بمقاربات‮ ‬سياسية‮ ‬جديدة‮ ‬تهدف‮ ‬إلى‮ ‬احتواء‮ ‬الإسلام‮ ‬السياسي‮ ‬بدل‮ ‬إقصائه‮.‬

‮ ‬7‮ ‬‭. ‬وأخيرا‮ ‬سيظل‮ ‬النظام‮ ‬الرسمي‮ ‬العربي‮ ‬هو‮ ‬الثابت‮ ‬الوحيد‮ ‬في‮ ‬هذه‮ ‬المعادلة،‮ ‬وسيواصل‮ ‬غربته‮ ‬وغيابه‮. ‬وسيظل‮ ‬السؤال‮ ‬الذي‮ ‬يطرحه‮ ‬كل‮ ‬المحللين‮: ‬أين‮ ‬العرب‮ ‬من‮ ‬هذه‮ ‬التحولات؟‮.‬

ورغم كل هذا نفتح قوسا زيادة في الاحتياط لنقول إنه رغم فرحنا بقرب رحيل أمريكا، فنحن لا نزال بعيدين عن رسم تلك الصور الوردية للمستقبل العربي. فكل ما قلناه هو تصور موجز نقدمه لجورج بوش الأب حول الكيفية التي ستكون عليها حياة ابنه بعد أن فقد الحزب الجمهوري غالبيته‮ ‬في‮ ‬مجلسي‮ ‬النواب‮ ‬والشيوخ‮.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!