البيان المقاصدي الإسلامي الواعي لعبادة الصيام
عبادة الصيام من الناحية الفعلية والواقعية هي: توقف مفاجئ وقطعي وحتمي عن كل ما اعتاده الفرد ماديا وجسديا وروحيا ومعنويا وتواصليا طيلة شهر رمضان من كل سنة، فمقابل كل أحد عشر (11) يوم فطرٍ يقابله يوم واحدٌ صيام، فكل ستة وثلاثين وثلاثمائة (336) يوم فطرٍ يقابله ثلاثون (30) يوما صياماً.
وفي التعريف الفقهي العام للصيام هو: فريضة على كل مسلم بالغ عاقل، وهو بالمعنى المخصوص: الامتناع عن الأكل والشرب والجماع أو إدخال أو القيام بأي شيء يفسد الصيام (كالاستمناء والتقيؤ العمدي والفصد ونحوها..) بنيّة مخصوصة من أذان الفجر إلى أذان المغرب. فضلا عن سننه وآدابه الروحية والوجدانية والمعنوية والأدبية..
وهو بهذا البيان الجامع عبادة مقصدية كبرى، الهدف منها حفظ الدين، وبحفظ المسلم وإتيانه لهذه العبادة على وجهها الأكمل والصحيح ماديا ومعنويا وروحيا، يُقصد بذلك إصلاح وحفظ النفس والعقل والنسل والمال.
والمسلم الصائم عندما يلتزم بقواعد وأسس وشروط وكيفيات هذه العبادة كما نزلت في القرآن الكريم وكما بيّنتها ووضّحتها وفصلتها السنة النبوية المطهرة وفق مذهب السلف الصالح من الأمة إلى اليوم، فهو يقوم بعملية التزام وضبط جسدي ومادي وروحي وعقلي ونفسي شامل لعقله (التفكر في مقصد ومعنى هذه العبادة)، وقلبه (النية المعقودة في القلب)، وجسده (الامتناع عن المباحات لوقت مخصوص)، وعلى المستوى الفردي الذي لا بد أن ينعكس على المستوى والصعيد الجمعي والاجتماعي (الإحساس بالفقر والجوع والحرمان والحاجة، والدعوة للبذل والعطاء).. وعليه فقد رفع الإسلام من قسمة وأسهم وسندات بورصة الأعمال الصالحة في مواسم السوق الرمضاني الفضيل دون سائر الأشهر والأيام والمناسبات، فالصدقة والزكاة وتفطير الصائم، ونحوها من الأعمال.. لها ميزانها الثقيل في رمضان، وكذلك عبادة الصلاة وقراءة القرآن وقيام الليل والاعتكاف.. وعمرة رمضان تعدل حجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين..
وهكذا يزداد رصيد الأعمال في مزاد رمضان دون سائر الشهور الأخرى.. وهكذا دواليك في سائر آثار وتأثيرات عمليات التواصل الاجتماعي السوي أو المنحرف (فإن سابّه أو شاتمه أحد فليقل إني صائم)، فلا يبادله الإساءة والعنف.
1- المقصد الأول:
بصلاح الدين وصفاء مشربه وطيب نبعه المأخوذ عن السلف والخلف الصالح من علماء وفقهاء وأخيار ودعاة الأمة، يُصلح دين المرء، وهو المقصد الأول، فإذا سلم وصحّ واستقام المقصد الأول، حتما سيصحّ وسيسلم المقصد الشرعي الثاني وهو العقل، فيصير المسلم ذا عقيدة سنية سوية، فهو يبرأ من كل انحراف أو زيغ في العقيدة، فيؤمن بأركان الإيمان الست، ويؤمن بالله ويثبت له ما أثبته لنفسه دون انحراف ولا تجسيم ولا تعطيل، ويُنزل صحابة وزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلتهم التي بوّأهم إياهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيبرأ من الانحراف الشنيع الذي وقع فيه البعض، فيبرأ من أن يكون من صنف آخر، ويرى أن الإيمان اعتقادٌ بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح والأركان وهو يزيد وينقص، فيبرأ من عقيدة الإرجاء، ويرى أن الله هو مقدِّرُ الأمور ومسيِّرُها، فيبرأ من عقيدة القدرية، ويتبع إماما من الأئمة الأخيار (أبو حنيفة، مالك، الشافعي، أحمد) والمشهورين بالصلاح من أئمة الهدى عبر التاريخ الإسلامي في الأصول والفروع فيبرأ من كل ضلال أو انحراف. وهكذا يتحقق المقصد السامي الأول من عبادة الصيام.
2- المقصد الثاني:
إذا صلح العقل صلُحتْ معه وبعده النفسُ واطمأنت وسكنت وهبّتْ للرقي والتنمية والعمل والجد والنهضة بنفسها وأسرتها وجماعتها ومجتمعها ودولتها وكيانها والذبِّ والدفاع عنها في شتى الميادين والمجالات المختلفة، وإذا صَلُحتْ النفس صار تعاملها مع المال تعاملا شرعيّا سليما، فيكفي توجيه الأثر لها عبر هذه القاعدة في المال لتكون منهجها في التعامل المالي من غير كنز ولا كنٍّ ولا بخل ولا إسراف ولا تقتير (ليس لك من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأبقيت).. (و لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك..)، و(لا تبسطها كل البسط)، وغيرها.. من القواعد التي تحفظ المال.
وبصلاح النفس دينيا وعقليا وماليا ستصلحُ اجتماعيا (النسل والعقب)، وستنجب عقبا موحدا في الأرض، ذرية صالحة بعضها من بعض. وهكذا يتحقق المقصد السامي الثاني من عبادة الصيام.
3- المقصد الثالث:
وختامُها يجب أن نعلم أن العبادة التي نؤديها كل يوم وأسبوع وشهر وسنة وفي العمر ليست خدمة نسديها أو هدايا نقدِّمها لله تعالى (فهو غنيٌّ عن العالمين) (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم…) الحديث القدسي الشهير. كما يتقدم بها الكهان وسدنة المعابد بالقرابين الحسية بين يدي الأوثان وزلفى لله، بل العبادة أيها الصائمون مشروع متكامل ومدروس وخطة إستراتيجية شاملة، ومنهج مقصدي للارتقاء بالنفس لكي تبلغ درجات الكمال وترى ربها راضيا عنها في الدنيا ويوم القيامة. وعندما قربتْ لنا السنة النبوية فضل التبكير لصلاة الجمعة بالهدايا (من جاء في الساعة الأولى فكأنما قدّم بدنة، ومن جاء في الساعة الثانية فكأنما قدم بقرة.. كبشا، عنزة، دجاجة.. ومن جاء في الساعة الأخيرة فكأنما قّدم بيضة) فهي من باب قاعدة المبادلة الغريزية المذخورة في جِبِلّة الإنسان (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تومنون..) (الصف: 10)، وهكذا يتحقق المقصد السامي الثالث من عبادة الصيام.
تساؤلات مشروعة:
والأسئلة كثيرة أيها الصائمون، ولو طرحناها جميعا لاحتجنا إلى تأليف كتاب في مقاصد عبادة الصيام السامية، فهل يبقى في العمر بقية لرمضان المقبل ولما بعده؟.. لنقول كلمة في: فقه ومقصد الصيام، ونحاول أن نعلِّل ما أدرجه الأصوليون في خانة اللامعقول من وعن التعليل، فندرك ما عجزوا عنه –بحول الله في ظل الكشوف العلمية الفائقة في علم النبات والحيوان والبحار والمادة والجماد والفلك والنفس والاجتماع والطب والبيئة والطباع والاقتصاد والمال والتجارة والصناعة والتكنولوجية والذرة والهندسة الوراثية والكومبيوتر والاتصالات البرقية ومحركات البحث- عندما وضعوه في تلك الخانة غير القابلة للتعليل كعدد الصلوات والركعات وشعائر الحج.. وغيرها.
وفهمي القاصر –والله أعلم- أن مصطلح الأصوليين الشهير في تقسيمهم الأحكام من ناحية التعليل: إلى معقولة المعنى، وأخرى غير معقولة المعنى، أي: (غير قابل للتعليل في مجال العبادات)، أو قول الفقهاء: (هذا تعبُّدي لا تُعرف حكمته ومقصده) عقبة منهجية مبهمة أغلقت طريق العقل وأخمدت شعلة توقده ونشاطه، وأثنت عزيمته عن البحث في استنباط المعاني والمقاصد المبثوثة في خبايا وخفايا العبادات. والمقصود منها غلق ما تُرك مُشرعا ومفتوحا لإدراك وفهم بعض ما يُريح النفس من إدراك بعض أسرار وخفايا وأعماق وجوهر العبادات التي يمارسها الفرد المسلم بسائر قواه الحية: (عقله وروحه وجسده)، لأن كل حركة وسكنة وكلمة في العبادات محكومة بمقاصد ربانية عظيمة، ومعللة بركام من الحِكم المقصودة بعينها، والتي يمكن للعقل الرشيد اكتشافُها، أو السعي الحثيث لمحاولة ومجاولة اكتشافها.. فالطبيعة البشرية تكون أسعد وأنشط وأوعى.. عندما تعرف أسرار ما تقوم به من عبادات وغيرها، على العكس منها عندما تجهل الكثير من المقاصد والأسرار حتى ولو في مجال العبادات التوقيفية.
إذا كانت قيمنا ومقدساتنا مشوَّهة فمن الطبيعي والمنطقي أن تنعكس على الإنسان والجماعة والعمران والكيان والضمائر والأوطان المدمَّرة والخاوية.. وإذا كانت العبادات تُقام بمعزل عن النفس والروح والوجدان والعقل الواعي والرشيد.. فهي مجرد نشاط اجتماعي مفرغ من محتواه الحضاري الدافع للعُلا، ولن يكون لها أيُّ أثرٍ على كمال وجمال النفس السوية التي ستبني ظلال الهدى في الأرض.
هل حققنا مقاصد العبادات؟
إن العبادات (صلوات، صيام، حج، زكاة) التي يؤديها ملياران من المسلمين السِّلبيين والعاجزين في العالم، ولم تستطع أن تغيرهم نحو الأفضل حضاريا وثقافيا واقتداريا وتمكُّنيًّا، أو أن تنقلهم من ذيل ومؤخرة العالم وتجعلهم في رأس الأمم، كأن يصطفوا صفا طويلا ومرتبا لممارسة سُنَّةٍ فقط كتقبيل الحجر الأسود، فيتصارعون دونه حتى تسيل الدماء من بعضهم ويجرح بعضهم ونحو ذلك مما شاهدنا.. وكان بإمكانهم أن يفعلوا ما يفعله مليار ونصف المليار صيني –الذين جهلوا ربهم، وقصَّرنا عن دعوتهم- حين يرتصفون بالتناوب طوابير لا نهاية لها من أجل إشباع شهوة غريزية فقط كركوب القطارات والحافلات والذهاب للعمل، واحترام الآخر والنظام الذي به تستمر الحياة. حتما سنعرف الإجابة بشكل برقي، وسنكتشف بسرعة مذهلة كيف تحولت وصارت عباداتنا مجرد طقوس مفرغة لا أثر ولا تأثير يُرجى منها، لأن الأفكار تنبني وتتأسس على التصورات والعقائد والعبادات، فإذا كانت قيمنا ومقدساتنا مشوَّهة فمن الطبيعي والمنطقي أن تنعكس على الإنسان والجماعة والعمران والكيان والضمائر والأوطان المدمَّرة والخاوية.. وإذا كانت العبادات تُقام بمعزل عن النفس والروح والوجدان والعقل الواعي والرشيد.. فهي مجرد نشاط اجتماعي مفرغ من محتواه الحضاري الدافع للعُلا، ولن يكون لها أيُّ أثرٍ على كمال وجمال النفس السوية التي ستبني ظلال الهدى في الأرض.. فمتى ندرك مقاصد العبادات؟ ومتى ننهض بروح وجوهر العبادات؟ ونحن ننظر بذهول وبهت ووجوم سحق إخواننا في فلسطين الجريحة والضفة المكلومة وغزة الأبية الجائعة المضمخة بالدماء وأكوام الركام.. علمُ ذلك عند ربي. أللهم اشهد أني بلّغت.