التبييتُ بليل والإفصاحُ نهارا

لم يعد الأمر يقتصر على التدخل في الشؤون الجزائرية الداخلية وفكرها وثقافتها السياسية والفكرية وتوجّهها الإعلامي، ومواقفها تجاه حقوق الإنسان والحريات الدينية والفردية، وإصلاحاتها في هذا المجال وبقية المجالات، باعتباره كان دوما الشغل الشاغل لليمين المتشدد في الغرب ولاسيما في فرنسا، بل غالبا ما كان يمثل “حصان طروادة” في كل محطة وفي كل نقطة تحوّل مسار نحو التغيير والتغير، يعمل عبر هذا “البرنامج غير الحميد”..
حتى لا نقول “الخبيث”، بهدف زعزعة استقرار البلاد عند كل انطلاقة جادة نحو التحول: التحول بعيدا عن “مركز” العالم بالنسبة للغرب الذي هو المركز الأوروبي، الذي لا يزال يعتقدون، أنه لا يزال مركزا، كما كان منذ القرن الـ18، غير مدرك بأن هذه المركزية، صارت في خبر كان مع تعاظم النفوذ الأمريكي وتحول هذه المركزية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عبر مخطط مارشال الذي أعاد بناء أوروبا المدمَّرة من جراء ويلات الحرب العالمية الثانية، مما جعل الغرب الأوربي اليوم يمثل الجسد الكلاسيكي المترهّل الذي لا يزال محميا تحت عباءة “غوغل”، كما يُقال عن الأديب الروسي الذي خرج من تحت عباءته كل الأدباء في ما بعد.
لم يعد الفكر العنصري الكلاسيكي الذي تميز به الغرب الاستعماري، الذي ورثه عن أسلافه ضمن حروب الاستعمار على مدى قرون منذ الحقبة الإغريقية ودخول الغرب حرب الإمبراطوريات مع المد الروماني وما يليه.. لم يعد هذا الفكر الاستعلائي، الرافض للآخر، تحت مسمى التنمر الثقافي الأورو مركزي الذي هو “البربرية” و”التوحش” الذي وُسمت به كل الحضارات غير الغربية الإغريقية الرومانية.
اليوم، لا يزال التنمر السياسي والإيديولوجي تحت يافطة “الإسلاموفوبيا” يلعب ورقة الربح والخسارة في كل عمل انتخابي ودعائي قبل أي استحقاق وحتى من دونه، إذ عاد هذا الشكل من التدخل عاديا وبديهيا رغم تنافيه أصلا مع مبادئ العلمانية التي كرسوها لهم دون سواهم ودون سائر الأقليات التي تعيش في أحضانهم.
آخر هذه الصيحات في عالم الإسلاموفوبيا، هو الخطاب السياسي الترويجي الدعائي ضد مسلمي فرنسا بالذات، ومثله في كثير من بلدان الغرب الأوروبي، والتي أبانت عن مواقفها في هذه المسألة من سماحها بحرق القرآن الكريم وتدنيسه والإساءات الكاريكاتورية إلى نبيّ الإسلام والمسلمين، وهذا عبر عنوان استهلاكي جديد: “الإسلام السُّني”، باعتباره “خطرا” داهما لقيم المجتمع الغربي وثقافته ولعلمانيته. العلمانية الفرنسية بالذات التي صارت تبدو وكأنها “دين” وعقيدة، ترفض غيرها من الديانات، مع أن العلمانية تشكّلت أصلا على مبادئ حرية الفرد والجماعة وحرية المعتقد والفصل بين العامّ والخاص. هكذا، بشكل واضح لا لبس فيه: الإسلام السُّني. جاء هذا على لسان أكثر من سياسيٍّ فرنسي، ليس من اليمين المتشدد بل حتى من اليمين الوسط ومن حزب ماكرون نفسه. تعبير وتوصيف مشفوع بأغرب حالة رقابة ومراقبة تقوم بها المخابرات الفرنسية بشكل غير دستوري وغير قانوني. تمثل هذا الأمر فيما حدث قبل أيام عندما سرَّبت وثيقة طلبا من الداخلية موجَّها لمؤسسات التعليم تطلب فيه إحصاء حجم غياب التلاميذ خلال عيد الفطر الأخير وحتى خلال رمضان، وهذا في منطقتين على الأقل التي تم فضح التسريب منهما وهما عمالة “تولوز” و”مونبيليي”، ولا يُستبعد أن يكون الطلب معمَّما. وسارعت إثر هذا التعميم، بعض المؤسسات التعليمية إلى سحب الطلب بعد انفضاح الأمر وتبرئة الشرطة والداخلية، لكن إثم المخابرات لم يُزله السحب والاعتذار، فما حصل قد حصل.. وما أريد له أن يُخفى، أذاعه… على رأي امرئ القيس… الإخفاء”.