التردد تجاه الخيارات… يُربك مصيرنا القادم
يبدو أننا نعيش اليوم حالة من التردد تجاه المستقبل غير مسبوقة في تاريخنا الوطني تحتاج منا إلى وقفة عند الأسباب والنتائج والتأثيرات المحتملة علينا جميعا كدولة ومجتمع وأفراد.. تردد تجاه الخيارات السياسية والاقتصادية، وتردد تجاه التكيف مع مستجدات المحيط الإقليمي والدولي المتغير باستمرار.. هذا الوضع إن كان يعطينا بعض الإحساس بالاستقرار في الحاضر فمن شأنه أن يجعلنا نخاف من اللحظة التي قد يُصبح من غير الممكن لنا فيها التحكم في مصيرنا القادم.
وكأننا توقفنا عن التفكير في الحلول التي يمكنها أن تعيد رسم الخارطة السياسية في بلادنا، وكأن التعاطي ببرودة وبتسويف واضحين مع الحراك السياسي الراهن من قبل سلطة قائمة ينبئ بأن كافة الحلول المقترحة إنما هي غير قابلة للتنفيذ، وكأننا نُخفي عجزا واضحا عن إيجاد مخرج للوضع السياسي الذي نحن فيه، ويُريحنا أن نرى الجميع غير قادرين على تقديم البديل القادر على جَمْع المتنافسين، لا انطلاقا من قوى المعارضة ولا انطلاقا من ممثلي السلطة.
وكأننا في الجانب الاقتصادي نتحرك خارج نطاق تقلبات السوق البترولية والتنافس الكبير بين القوى الكبرى التي تسعى جاهدة لإنقاذ نفسها من شبح الكساد والبطالة التي أصبحت تطرق كل الأبواب.. بل وكأننا كمواطنين لم نعد نكترث إلا للّحظة الراهنة: كيف يستطيع أي منا إنقاذ نفسه وعائلته ومحيطه الضيق أمن خلال هذا الطريق أم ذاك. وكأن التردد السياسي والاقتصادي وأنانية الخيارات قد انتقلت من القمة إلى القاعدة، ولم يعد هناك تفكير مشترك لدى الجميع لإيجاد حلول عامة تدفع بالبلاد خطوة باتجاه التقدم نحو الأمام لا العودة إلى الوراء.
هو ذا الإحساس الذي تجد المرء يشعر به في اللحظة الراهنة وهو يرى إشارات حاملة للمستقبل تكاد تنطق بنفسها في هذا المجال:
– على الصعيد السياسي لم يتقدم التوافق بين المعارضة والسلطة بشأن الدستور خطوة جديدة إلى الأمام، بل هناك شبه انسداد، من شأن استمراره أن يدفع السلطة باتجاه فعل ما تريد لإنقاذ اللحظة الراهنة التي تعيش من غير اكتراث لما سيحدث بعد حين.
– على الصعيد الاقتصادي، نخطو خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الوراء في مجال الاعتماد على الذات والاكتفاء الذاتي، مهما كانت الظروف، مهما كانت أحوال الخزينة، مهما كانت أسعار البترول والغاز، مازلنا نشك في ما إذا كانت شبه التقلبات الاقتصادية غير ذات أثر فينا، وما إذا كان علينا أن نبني حقيقة سياسة اقتصادية خارج المحروقات أم نتجه مرة أخرى لتكرار نفس التجربة التي قمنا بها مع البترول، وهذه المرة مع الغاز الصخري الذي وعَدنا بالتنقيب عليه وبيعه من غير أي نقاش معمق ولا تساؤل حول ما إذا كنا سنربح باليسار من الغاز الصخري ما سنخسره باليمين من البترول والغاز التقليديين.
– على الصعيد التربوي، مازلنا نتردد بين أن ننتصر على جبهة الإضرابات وضغوط النقابات ومسائل الأجور والتوظيف… أو أن ننتقل إلى جبهة البحث عن نوعية تعليم أفضل لأبنائنا يمكنهم من الصمود في عالم لا يقبل بغير الأكفاء.. أي أن التردد هزمنا مرة أخرى في هذا المجال ولم نتمكن من صياغة استراتيجية في ظل الاهتمام بالتكتيك اليومي لمعالجة المشكلات.
– وعلى الصعيد الصحي مازلنا لم نحسم الأمر بين عقلية العفو عما سبق من سوء تسيير وعدم اكتراث للتدهور الحاصل في مستوى التكوين والتأخر المسجل على صعيد المنشآت، وبين إعادة صياغة إستراتيجية جديدة لهذا القطاع تقوم على قواعد تنفي كل ما سبق من أخطاء.
– وعلى الصعيد الفلاحي، ما زلنا في موقعنا يُراوح بين أن نستمر في استيراد ما نأكل وما نشرب، ولا نكترث لأننا لم نعد نستطيع تحقيق الاكتفاء حتى للحيوان (استيراد العلف) فما بالك بالإنسان.. وبين أن نبني حقيقة سياسة قائمة على الاكتفاء الذاتي ولو بعد حين، بكل ما تحمل من ضغوط وصعوبات..
وقس على ذلك باقي القطاعات: السكن، التجارة، الصناعة الصغيرة والمتوسطة، البنوك.. جميعها يمكن أن تسير بهذا الطريق اليوم، وغدا تسير بأخرى، لا يهم ما سيحدث بعد حين، ما دامت تسير كيفما كان الحال..
ومعنى كل ذلك أننا فقدنا اليوم، وفي آن واحد، القدرة على التصور والقدرة على التحكم في التنفيذ،المعبر عنها بكل وضوح من خلال التردد في الخيارات والتسويف في اتخاذ القرارات على كافة المستويات: وهي مشكلة أساسية ينبغي علاجها.
وليس لذلك علاج سوى الانطلاق من اعتبار التصور (تصور الحلول بعيدة المدى)، هو صناعة خبراء وسياسيين وكفاءات عالية، ينبغي أن تحظى بأولوية السلطات، بدل ذلك الاستهجان القاتل لها اليوم في أغلب المستويات…
وربما هم شركاؤنا الأجانب من أوربيين وأمريكيين الأكثر إدراكا لهذه المسألة من خلال محاولاتهم المتكررة لفرض نوع من التصور على قطاعاتنا (التعليم العالي، الصناعة، النقل.. إلخ) لكي تصبح ملائمة لمصالحهم السياسية والاقتصادية.. أما نحن فلم نعد نُعطي لقضايا التصور هذه أي اهتمام تحت ضغط اللحظة الراهنة والأهداف السريعة التي ينبغي أن تتحقق.. وأصبح التأجيل والتسويف السمة الغالبة لسياساتنا، وأحد مظاهر ذلك ما نسمّيه التردد المفرط في اتخاذ القرارات..
وهكذا تحول التنفيذ الذي نراه أمامنا إلى سياسات من غير استراتيجية ومن ثَم إلى سياسات غير قادرة على أن تكون ذات فعالية، مادام القائمون عليها يتحركون خارج نطاق أي تصور شامل أو يتحركون في أحسن الحالات ضمن نطاق تصورات للحول ضيقة الأفق أو تحكمها آفاق غير وطنية.. ونتيجة لكل ذلك أصبح المجال مفتوحا أمام المنفذين البسطاء ليعتقدوا أأنهمصحاب تصور، يسخرون من مهمة الأكثر كفاءة على القيام بذلك كما يسخر البناؤون غير المؤهلين أو البيروقراطيين من غير أفق من المهندسين المعماريين أصحاب الخبرة العالية في مجال الإبداع والابتكار.
وتجلى ذلك في ظاهرة أصبحت مقلقة في حياتنا السياسية والاقتصادية بل وفي جميع مناحي حياتنا اليومية: غياب المنفذين المُتْقنين لعملهم من جميع القطاعات، و تحول الجميع إلى فئة أصحاب التصور، المُنَظِّرين، القادرين على القول غير المستعدين للفعل مهما كان هذا الفعل بسيطا على المستوى العملي.
كل هذا شكَّل المحيط العام الذي نعرفه اليوم ويمنعنا منعا من العمل والإنتاج والابتكار في أي مستوى من المستويات.. وقبل ذلك يمنعنا من اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، أي يؤدي بنا إلى حالة التردد القاتلة لكل مشروع مستقبلي نريد أن نصوغه.
وهي حالة ينبغي أن تزول إذا أردنا بحق أن نواجه التحديات التي تُحيط بنا اليوم من كل جانب بعزيمة وبرباطة جأش، أما وأن نرضى بالحال هذه التي نحن عليها الآن.. لا نكاد نتخذ أي قرار استراتيجي في أي مستوى من المستويات، فتلك مشكلة يمكنها أن تُصبح مزمنة مع مر الأيام، لأننا إذا ترددنا اليوم في مواجهة مشكلات صغيرة، لها علاقة بضغوط اقتصادية أو سياسية داخلية نعرفها، فإننا غدا، عندما تتحول المشكلات الصغرى إلى تحديات إستراتيجية.. فإننا سنفقد حتى الحق في التردد لأننا نُصبح أمام بديل واحد هو تنفيذ الخيارات المفروضة علينا.. بكل تأكيد لن تكون هذه الخيارات من تصورنا، والغالب أننا لن نستطيع حتى تنفيذها..