الجزائر وباريس وشعرة معاوية

تأتي زيارة الدولة التي من المتوقع أن يقوم بها رئيس الجمهورية لباريس خلال النصف الثاني من شهر جوان المقبل، بعد سلسلة من العوائق والمثبطات الدبلوماسية التي دأبت العلاقات ما بين الجزائر وفرنسا تعرفها كل حين بفعل التجاذبات التاريخية بين البلدين السياسية والأمنية والدبلوماسية المرتبطة أساسا بالذاكرة وبالسيادة وبالرغبة، بل وبالقرار الراسخ النهائي والقطيعة لدى الجزائر الجديدة بشأن العلاقات مع فرنسا، التي لن تكون بعد اليوم، إلا ندية، عادية مثلها مثل بقية الشركاء الاقتصاديين الآخرين. لا تمييز ولا امتياز.
هذا النهج السياسي الجزائري تجاه فرنسا، وتعاملها البراغماتي مع فرنسا ـ ماكرون ـ جعل من هذه المعوقات والمثبطات، كثيرا ما تنتهي بتفاهمات جديدة كون الجرائر تعرف أن علاقتها مع فرنسا، مرتبطة بموازين قوى داخليه في فرنسا، وأن التجاذبات السياسية الداخلية في فرنسا لا تعنيها كثيرا، إلا بالقدر الذي يخدم مصالحها مع الطرف الثاني على أساس قاعدة “رابح رابح”، سواء كان ذلك مع اليمين أو اليسار أو الوسط أو أي تيار مستقبلي سيكون في السلطة، بشرط أن يقبل قاعدة التعامل الجزائرية.
تأتي هذه الزيارة المرتقبة، في خضم توسيع الجزائر لشراكتها مع كل الدول التي ترغب في التعامل معها على أسس نفعية متساوية الحقوق والمستحقات، بعيدا عن التكتل الضيق والتخندق والاصطفاف أو الانحياز. فخلال الفترة تقريبا من المتوقع أن يقوم رئيس الجمهورية بزيارة دولة لكل من روسيا والصين، تمهيدا لانضمام محتمل كمراقب في الـ”بركس”.
تأتي الزيارة أيضا، وفرنسا تعرف تصاعد الخلافات الداخلية بشأن قانون التقاعد والتوجهات الرئاسية لفرض تغيير بدا للمعارضة السياسية والعمالية ضربا من فرض الأمر الواقع وانتهاج إرادة غير ديمقراطية في العمل والحياة السياسية.
ماكرون، يريد أن يضمن لحزبه، حتى وإن لم يعد يملك مشروع ترشح بسبب استنفاد عهداته الرئاسية، بقاء في الساحة السياسية حتى ولو في المعارضة، وعلاقاته مع الجزائر في المجال الاقتصادي ومجال الذاكرة، هو الخط الوسط الذي يرغب أن يرسمه لفرنسا المستقبل في علاقتها مع الجزائر الحاضر والمستقبل. لهذا، يسعى الرئيس الفرنسي إلى محاولات عدة لترميم ما يفسده السحرة و”العطارون” في الدولة العميقة والمعارضة في العلاقات الفرنسية الجزائرية، ويعمل على امتصاص الصدمات، محاولة منه لبناء فرنسا أقوى اقتصاديا ودوليا باعتبارها قوة أوروبية مركزية تريد قيادة أوروبا بعيدا عن الهيمنة الأمريكية تماما كما تريد الجزائر أن تنمو بعيدا عن الهيمنة الفرنسية. هذا الشعور بأن فرنسا يجب أن تتخلى عن ذهنية الماضي “قليلا”، وتنفتح على المستقبل بعقلية براغماتية جديدة، كما حاول ديغول سلفه أن يفعل بفرنسا منذ الحرب العالمية الثانية، هو ما يملي على ماكرون الميل نحو الصين ونحو تهدئة الأوضاع في أوكرانيا ومع روسيا، حتى وإن بدا داعما قويا لدعم أوكرانيا بكل ما تستطيع فرنسا.
الجزائر، قد تعطي لماكرون دفعا في هذا الاتجاه وتساهم في دعم فرنسا لفكرة عدم الانقياد، بالاعتماد على موارد اقتصادية أكثر نفعا وقربا وفائدة تجنيها من تعاملاتها واستثماراتها في الجزائر القريبة جغرافيا مع يد عاملة مؤهلة وغير مكلفة، والتي من شأنها أن ترمم اقتصادها بعد قطع صلة الغرب مع الطاقة الروسية الرخيصة واستبدالها بالطاقة الأمريكية المكلفة، وحمائية أمريكية، وقبلها أزمة صفقة الغواصات الأسترالية، والتي أخرجت ماكرون عن أطواره تجاه الولايات المتحدة، فسارع إلى زيارة البيت الأبيض قبل أشهر للتقليل من “حِمية الحمائية” الأمريكية، غير أنه عاد بخف حنين، عندما هبت الرياح الأمريكية بما لا تشتهيه السفن الفرنسية.