الحج إذكاء مشاعر وتجديد عواطف

نظرت إلى “المَسعَى” وهو يَمُوج بحشود كثيفة تَطُوف بين الصفا والمروة، وساءلتُ نفسي: إن هذا السعي بين الجبلين الصغيرينِ شُرِع لترسيخ عقيدة التوكُّل على الله، وإن وَهَت الأسباب المادية، فهل الساعون يَعُون ذلك؟ من قرون خلَت كانت هذه البقعة يسودها صمت الوَحْشة والانقطاع، لا أنيس هنالك ولا عمران، جاءها إبراهيم -عليه السلام- بامرأته وابنه الرضيع، ثم قال للأم الضعيفة: سأتركك هنا! وتساءلت هاجر دَهِشَةً: تتركنا هنا أنا وإسماعيل حيث لا زرع ولا ضرع، ولا دار ولا ديار؟ نعم. قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. إذن لا يُضيِّعَنا.
وانصرف الأب لا يدري ماذا سيقع له ولا ما سيقع لأسرته، لقد نفَّذ ما أُوحي به وحسب! ونَفِد الزاد والماء من هاجر، وجاءت الساعة الحَرِجة، وانطلقت الأم بين الربوتين الجاثمتين على صدر الوادي تبحث عن غَوْث للرضيع الذي يُوشِك أن يَهلِك.. وبعد أمدٍ جاء الملك وفجَّر بئر زمزم، وحامت الطير حول الماء الدافق، وأحس الناس ما جَدَّ فأقبلوا على المكان يَعمُرونه.. إن ثقة هاجر في الله أثمرت الخير، ولم يخذُلها الله بعد ما آوت إليه. والتوكل على الله -مع ضعف الأسباب أو انعدامها- زادٌ يحتاج إليه المجاهدون والمضطهدون، يعتمدون عليه في اليوم الكالح كي يُسْلِمَهم إلى غد رابح.. وقد خسر المسلمون معارك كثيرة، كانوا جديرين بكسبها لو استندوا إلى الله، ولكنهم خاروا لضعف يقينهم ثم هانوا في أرضهم!
هل يعي ذلك الساعون بين الصفا والمروة؟ وهل عرفوا عُقْبَى التوكل عندما يُمَثِّلون الدور الذي قامت به أم إسماعيل وهي تتحرك جَيْئَة وذهابًا بين الربوتين؟ قال التاريخ: واعترض الشيطانُ إبراهيمَ لما ترك أسرته بالوادي المقفِر، يقول له: كيف تنفذ أمرًا فيه هلاك أهلِك؟ لأن الله أمرك؟ فقذفه إبراهيم بحصيات التقطها من التراب، فكانت تلك سنَّة رمي الجمار فيما بعد.
إن مناسك الحج تنمية لعواطف المسلمين نحو ربهم ودينهم وماضيهم وحاضرهم.. ويكفي أنها تجمعهم من أطراف الأرض شُعثًا غُبرًا، لا تفريق بين ملك وسُوقة، ولا بين جنس وجنس، ليقفوا في ساحة عرفة في تظاهرة هائلة، الهتاف فيها لله وحده، والرجاء في ذاته، والتكبير لاسمه، والضراعة بين يديه، فقر العبودية ظاهر! وغنى الربوبية باهر! ومن قبل الشروق إلى ما بعد الغروب لا ذكر إلا لله ولا طلب إلا منه سبحانه.
إن الحج من الناحية الروحية إذكاء مشاعر وتجديد عاطفة، ومن الناحية الاجتماعية فرصة ثمينة للتوجيهات الجامعة التي تكفل مصلحة المسلمين العليا. ولكي ندرك ذلك ندرس كيف حج المسلمون في السنة التاسعة والسنة العاشرة للهجرة.. في السنة التاسعة رجع الحجاج وقد تلقَّوا تعليمات بقطع علاقاتهم مع العابثين بمعاهداتهم، ومعاملتهم بالشدة بعدما فشل اللطف معهم.. وفي السنة العاشرة وُضعَت تقاليد إنسانية وآداب عامة تضمنتها الخطبة الجليلة التي ألقاها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع.. فهل يسمع المسلمون شيئًا ذا بال عندما يحُجون في هذه الأيام؟ (من كتاب “مائة سؤال عن الإسلام”).