-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الحديث النبوي وعالم الرقمنة

التهامي مجوري
  • 3995
  • 4
الحديث النبوي وعالم الرقمنة

ذكرنا في مناسبة سابقة المستشرقين بما عرف عنهم من تحيز لدولهم الاستعمارية؛ من حيث أنهم سخروا معارفهم لخدمة حركة الإستعمار خلال القرن التاسع عشر وجزء من القرن العشرين، وذلك في احتلال الشمال الإفريقي والشرق الوسط وآسيا بطولها وعرضها، لا سيما في أبحاثهم المتعلقة بالإسلام وعلومه، أمثال ماسنيون وجب ومارجليوث وجولد زيهر غيرهم كثير، وتلتقي مهمة هؤلاء المستشرقين في الغالب على خدمة المشروع الاستعماري بكل تفاصيله أحيانا مجندين في إطار العمل الإستخباراتي، وكقناعات علمية بحثية سكنت أصحابها في كل ما ينتجون من دراسات، ويلتقون مع الوجهة الإستعمارية في مستوى ما؛ لأن الدول الإستعمارية نفسها هي التي كانت تمول حركة الإستشراق، مثل ألمانية، فرنسا، بريطانيا، هولندا…إلخ.

يقول المستشرق الألماني المعاصر استفان فيلدStephan Wild) :): في ذلك “توجد جماعة يسمون أنفسهم مستشرقين سخروا معلوماتهم عن الإسلام وتاريخه في سبيل مكافحة الإسلام والمسلمين. وهذا واقع مؤلم لا بد أن يعترف به المستشرقون المخلصون لرسالتهم بكل صراحة”، وكما يقول جاك بيرك المستشرق الفرنسي كلاما في نفس السياق “الإستشراق والاستعمار وليدا سياسة فرنسية واحدة”.

ومع ذلك ورغم هذه الورطة التي وقع فيها الكثير من المستشرقين، فقد استدرجتهم خدماتهم الاستعمارية إلى خدمة العلم وبذلك خدموا الكثير من التراث الإسلامي، وقاموا بخدمات لم يكن غيرهم ليقوم بها، وربما لولاهم لضاعت ملايين المخطوطات، التي تملأ مكتبات أوروبا اليوم، في الكثير من فروع التراث والقرآن والحديث وعلومهما، والذي يهمنا هنا موضوع الحديث النبوي وما يتعلق به.

وأهم ما تجب الإشارة إليه في ذلك هو كتاب “مفتاح كنوز السنة”، الذي ألفه أستاذ اللغات الشرقية بجامعة لندن المستشرق الهولندي أرنت جان ونسك  Aren’t Jan Winsink. والكتاب فهرسة لأربعة عشر كتابا من كتب السنة والسيرة: الصحيحين والسنن الأربعة، وموطأ الإمام مالك، ومسند الإمام أحمد، وسنن الدارمي، ومسند زيد بن علي، ومسند أبي داوود الطيالسي، وطبقات ابن سعد، وسيرة أبن هشام ومغازي الواقدي، في جزء –مجلد- واحد من ستمائة صفحة تقريبا.

هذا الكتاب وضعه ونسنك لتسهيل مهمة الباحثين المستشرقين تحديدا في نشاطهم العلمي المكثف يومها، والذي اكتشفه من المسلمين عندما صدر سنة 1927 هما: الشيخان المحدث أحمد شاكر والعلامة محمد رشيد رضا صاحب المنار وصاحب الاتجاه الإصلاحي المعروف، وسُرَّا كثيرا وربما كان الأكثر سرورا منهما: الشيخ أحمد شاكر لاشتغاله بالحديث لما سيوفره عليه من متاعب في الرجوع للمخطوطات والمطبوعات الحديثية القديمة التي لم تكن بهذا بالشكل الذي نشاهده الآن في كتب الحديث. فقد روي عن أحدهما أنه قال “لو كان عندي هذا الكتاب في شبابي لوفر علي ثلاثة عقود من عمري” في البحث العلمي.

ولما اكتشفه الشيخان طلبا من الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي، أن يترجمه إلى العربية؛ لأن محمد فؤاد عبد الباقي كان ملازما للشيخ رشيد رضا منذ سنة 1922 إلى غاية 1936 تاريخ -وفاة الشيخ رضا رحمه الله-. وهناك رواية أخرى تقول إن الكتاب أطلع عليه محمد فؤاد عبد الباقي وتصفحه ثم قال: “من الجُرْم ألا يُترجم هذا الكتاب إلى العربيّة..”، ويبدو أنه قال هذه العبارة أمام الشيخ رشيد رضا، فقال له “إذن لتكن أنت صاحبه”،  ومن ثم عكف عبد الباقي على ترجمته وأخذ منه المشروع  خمس سنوات، ولكن المفاجأة أنه لما راسل المستشرق أرنست جان ونسنك لاستئذانه في ترجمة الكتاب، سُرَّ ونسنك بذلك وأذن له؛ بل وأطلعه على مشروع جديد شرعوا في تأليفه بعنوان: “المعجم المفهرس لألفاظ الحديث”، وأرسل إليه الجزء الأول وهو الجزء الجاهز منه يومئذ.

فقرأ محمد فؤاد عبد الباقي ذلك الجزء وصحح الأخطاء التي صادفته، -أي تعاون مع القوم بما يقتضيه موقف الباحث النزيه- وربما لهذا السبب تجاوبوا معه بعد ذلك في طبع المعجم أيضا.

والمعجم المفهرس لألفظ الحديث، هو أيضا كتاب في فهرسة تسعة من كتب الحديث: السنن الستة وموطأ مالك ومسند احمد وسنن الدارمي، وقد صدر الكتاب في خمسة مجلدات بعد ذلك، وهو أضخم من مفتاح كنوز السنة، الذي صدر في جزء واحد، رغم أنه يتضمن أربعة عشر كتابا، مما يعني أن فهرسة الجامع المفهرس لألفاظ الحديث أهم وأدق من مفتاح كنوز السنة.

لقد عكف على تأليف كتاب الجامع المفهرس لألفاظ الحديث أربعون مستشرقا، ولم يؤلف لنشره في ويباع في المكتبات، وإنما طبعت منه خمسمائة نسخة لهم وحدهم، ولكن يبدو أن العلاقة الخاصة التي نسجها الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي، الذي لم يبخل عليهم بالخدمة العلمية التي احتاجوها في حينها، غيرت مجرى النوايا القاصرة، وحولتها إلى نية متعدية، حيث ترحمه محمد فؤاد عبد الباقي ونشره وعمت الفائدة الجميع، بحيث استفاد من هذا الكتاب كل من اشتغل بالبحث في الحديث النبوي والسيرة.

ثم انتقل الشيخ فؤاد عبد الباقي “إلى عالم الرقمنة” في الحديث النبوي قبل أن نعرف هذا العالم الشائع بيننا اليوم. فرقَّم كل كتب الحديث وعلى رأسها السنن الستة والكتب التسعة، وجرى في ترقيمه على طريقة تبويب تلك الكتب، فرقَّم الكتب، والأبواب الواردة في كل كتاب، وفصول كل كتاب، ثم الأحاديث الواردة في كل فصل، والذي يهم بالأساس من كل ذلك ترقيم الحديث الذي هو مسلسل وليس منقطعا, فحديث النية في صحيح البخاري مثلا، يحمل رقم واحد في الترتيب، فـ[العنوان الكبير: بدء الوحي/ والعنوان الفرعي له: كيف كان بدء الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم/ وأخيرا رقم الحديث: 1 حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيممي: أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل إمرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما جاهر إليه”، وبحكم أن البخاري، كان يكرر الروايات، وأطرافها في أكثر من موقع في الكتاب بسبب تعدد رواتها، أضاف محمد فؤاد عبد الباقي إلى رقم الحديث، أرقام تلك المكررات في مواقعها. فحديث النية مثلا موجود بكامله في الحديث رقم 1، وهو مكرر كله أو طرف منه في الأحاديث: 54، 2392، 3685، 4783، 6311، 6553. وهكذا في جميع الكتاب.

وبعد هذه الخطوة كانت خطوة هامة تالية وهي نقل الحديث النبوي إلى عالم الرقمنة الالكتروني، فصدرت الكثير من الطبعات الالكترونية، والآن بين أيدينا الكثير من المنتجات الالكترونية، من موسوعات حديثية، بحيث بلغت جمع كل كتب الحديث، وهذه الجهود قد استفادت بلا شك من الجهود السابقة من مبادرات المستشرقين وإنجازات محمد فؤاد عبد الباقي وغيره.  

في سنة 1993، جالت بخاطري فكرة وضع برنامج الكتروني يحكم على الحديث بالصحة والضعف آليا، ذلك أن الأحاديث كلها مدونة، وتراجم الرجال الذين رووا تلك الأحاديث كلها مدونة أيضا، والأحكام الصادرة عن أهل هذا الفن في حق أولئك الرجال كلها مبسوطة في تراجمهم، بمصطلحات مضبوطة، ولم يبق إلا أن توضع كل تلك المعلومات في برنامج يطلق عليه المختصون في الإعلام الآلي إسم “system expert”، أي نظام خبير، بمعنى برنامج تعطى له المعلومات والآليات التي يحتاجها المحدث للحكم على الحديث بالصحة والضعف، ويبرمج على إصدار الأحكام على الأحاديث وفق المعلومات المتعلقة برواة الحديث، مثل برنامج المواريث تماما، يعطى اسم الميت، ثم يتقدم البرنامج بأسئلة عن الورثة، زوجة أو زوجات، أبناء، وأقارب –عصبة- ووالدين….، والنتيجة هي: نسب مئوية لكل وريث، تطبق على التركة. 

وعرضت الفكرة على صديق لي مختص في الإعلام الآلي، ولكن بحكم ضعف خبرة صديقي في تخصصه، وتخلف الإعلام الآلي يومها إذ كان لا يزال نظام “الدوص” وليس الويندوز…”، ولغات البرمجة لم تزل محدودة أيضا.

ومرت الأيام ونسيت الموضوع، ولكن بحكم انشغالي به بقي دائما في ذهني، أتذكر أهميته كلما صدر عمل في هذا الاختصاص، فصدرت خلال هذه السنوات الكثيرة من البرامج الخادمة لكتب السنة منها، الكتب التسعة، وموسوعة الحديث على موقع إسلام ويب القطري، ومنها برامج أخرى أقل أهمية ولكنها برامج مساعدة في خدمة السنة باستغلال هذه التكنولوجيات الحديثة.

وفي العام الماضي 2017 علمت أن شبابا ممن يشتغلون مع الدكتور جاسم سلطان القطري، صاحب مشروع النهضة، قد شرعوا في البرنامج الذي فكرت فيه سنة 1993، فدعاؤنا لهؤلاء الشباب بالتوفيق؛ لأنه مشروع عظيم وسيقدم للحديث النبوي خدمة عظيمة، في هذه الأجواء المهزوزة على جميع المستويات.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
4
  • بدون اسم

    المصيبة الكبرى هي الاحاديث لو كانت من عند رسول الله
    لما وجد بينها ما يسيئ ل الرسول نفسه نهيك عن التناقض الفتاك
    القرانيين اصدق دينا وعملا من الشيعة والسنة بعد وفات الرسول [ص]
    اخذ التحكم تدريجيا يسري على من امن ومن لم يؤمن بيد تغاط احتكروا
    تلفيق الاحاديث ل الركوب على ضهور الناس ويسوقونهم ك البعير

  • جلال

    القضية ليست في الرقمنه ولكن في تنقيح و تنقية الحديث وغربلته مما لحق به من مزاعم الشيوخ وخرافة الإسرائليات ودس المنافقين والملحدين
    (لقد وضع المتصوفة النبي صلى الله عليه وسلم في عالم المطلق من حيث الوجود ووضعه الفقهاء في عالم المطلق من حيث التشريع,فحولوا بذلك الإسلام و رسول الله الى خرافة من حيث الوجود والى تحجر وتزمت من حيث التشريع....محمد شحرور) مع أن محمد عليه السلام كان بشرا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق أو كما قال عن نفسه كان يأكل القديد وإن أكبر حب له هو إرجاعه الى الأرض. أرض الواقع

  • صالح بوقدير

    شهداءعلى الناس
    فيما تفيد الرقمنةإذا كانوا هم يطعموننا ويكسوننا ويعلموننا ويكتبون تاريخنا ويخدمون سنة نبينا ويحرضون بعضنا على بعض على التهارش والإقتتال وتخريب أوطاننا وديارنا بأيدينا فهل نحن فعلا شهداء على الناس؟فهل يستقيم ذلك مع مع مانراه من تبعية مطلقة وضحالةالفكروالوضاعة والانحطاط والأنحدار في دركات التخلف والسفالة؟أين الخلل؟أمة اقرأ لاتقرأ ولا تتعلم ولا تتعظ هل هو قدرا مقدورا؟أم بما كسبت أيديها؟وهل من بصيص أمل في الأفق في يقظة لاغفوة بعدها لأمة تتحمل الشهادةعلى الناس كما أمرت؟

  • بدون اسم

    السلام عليكم
    شكرا أستاذ
    ..في نفس الفكرة أو البرنامج الذي فكرتم فيه،
    من باب الصدفة كنتب أبحث عن إجابة على سؤال "شفاء الاعضاء بالآيات القرآنية "
    .. الشخص الذي قصدته كان بصدد إعداد موسوعة "الحديث النبوي الشريف "
    عن طريق البرمجة والغريب في الأمر من وضع هذا البرنامج "مختص في الفيزياء النووية"
    - راه خارج الوطن-
    بالرغم من أن صاحب الفكرة حفيده " مختص في الإعلام الآلي " عجز عن وضع هذا البرنامج ،
    الموسوعة لم تر النور بعد صاحبها توفي -بعد مرض عضال-
    ربي يرحمو ويوسع عليه،
    وشكرا