“الحسين” ومحنة فلسطين!

مع إهلال شهر محرّم من كلّ عام هجريّ، يبدأ الحديث في مواقع التواصل الاجتماعيّ، حول مناحات الشّيعة في عاشوراء، ويحتدم النّقاش في بعض الصّفحات حول مشروعية الطقوس التي يصرّ الشّيعة على إحيائها في هذا الشّهر، وحول استشهاد الحسين –رضيَ الله عنه- التي رافقت استشهاده مع عدد من أهل بيته الأخيار البررة، ويتوسّع النّقاش ليشمل الموقف الشّرعيّ من قتلة الحسين والراضين بقتله والساكتين عن ذلك المنكر التاريخيّ الشّنيع!
الأمّة الإسلاميّة بجميع طوائفها مجمعة –ولله الحمد- على البراءة من قاتلي الحسين وأهل بيته ولعن كلّ من قتل ريحانة رسول الله –صلّى الله عليه وآله وسلّم- أو أعان على قتله أو رضي بذلك، إلا أنّ بعض الخلاف وقع ولا يزال مستمرا حول لعن معيّنين بأسمائهم، تبعا للخلاف حول ثبوت مشاركتهم في دم الحسين ورضاهم بقتله، يقول ابن تيمية رحمه الله: “من قتل الحسين أو أعان على قتله، أو رضي بذلك، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً” (مجموع الفتاوى)، وليس صحيحا البتّة ما يروّج له الشّيعة -الذين يقتاتون على اختلاق العداوات- بأنّ بعض أهل السنّة يتولّون يزيد بن معاوية! ويدافعون عنه!
فحتى “المداخلة” ورثة “الطاعاتية”، الذين أسّسوا منهجهم على ترك الحديث عن أخطاء الحكّام والأمراء ومحاولة حملها على محامل حسنة ما أمكن! لا يتولّون يزيد بنَ معاوية ولا يحبّونه فضلا عن أن يقرنوه بريحانة رسول الله عليه الصّلاة والسّلام، بل يقولون: “لا نلعنه ولا نتولاّه، ولا نسبّه ولا نحبّه” على اعتبار أنّه لم يثبت لديهم أمرُه بقتل الحسين –رضيَ الله عنه- ولا رضاه بفصل رأسه عن بدنه الطّاهر! وإنّما ثبت ذلك في حقّ عبيد الله بن زياد ومن كان معه من شرار الخلق..
وهذا نظير سكوتهم –أي المداخلة- عن ذمّ عبد الملك بن مروان الذي رُميت الكعبة بالمنجنيق في أيامه وقُتل عبدُ الله بن الزبير –رضيَ الله عنه- في جوار الكعبة واحتزّ رأسه وصلبت جثته، على اعتبار أنّه لم يثبت لديهم أنّ عبد الملك بن مروان أمر بذلك أو رضي به! وإنّما هو من فِعل الحَجّاج بن يوسف الثّقفيّ.. هذا الذي اختارته الطّائفة المدخلية، بخلاف جمهور أهل السنّة الذين يبرؤون إلى الله من فعل يزيدَ بن معاوية ويحمّلونه وزر ما حدث في كربلاء في محرّم سنة 61هـ من فواجع في حقّ الحسين وأهل بيته من الرّجال والنّساء والأطفال، كما يحمّلونه وزر استباحة المدينة النبويّة وما حصل خلاله من أهوال، ويجوّزون لعنه، كما يبرؤون إلى الله من فعل عبد الملك بن مروان ويحمّلونه وزر ما حصل في جوار الكعبة في جمادى الآخرة سنة 73هـ.
ليس منكرا كبيرا أن يُفتح هذا النّقاش في محرّم، وفي كلّ وقت، لأجل استخلاص الدّروس وأخذ العبر، لكن ليس يكفي أبدا أن يُحصر النّقاش كلَّ مرّة وفي كلّ عام حول حيثيات استشهاد الحسين –رضي اللهُ عنه-، والطّريقة التي نال بها الجلاوزة الملعونون من سيّد شباب أهل الجنّة، ويصوّر الحسين –عليه رضوان الله- لكأنّه ما خرج من مكّة إلى كربلاء إلا لأجل أن يُقتل، وهو الذي قام قومة الأسد الهصور، ورفض أن يتحوّل الأمر من الشّورى إلى الملك العضوض، وتُنقض أوّلُ عروة من عرى الإسلام.. ولم تكن قومته هذه أوّل عهد له بالعمل لدين الله، بل كانت خاتمةً لحياة عامرة بالعطاء، عاشها مجاهدا في سبيل الله لا يخاف في الله لومة لائم.. عاش –رضيَ الله عنه- 57 سنة، قضى أكثرها فاتحا مجاهدا، وعابدا زاهدا، بالمعروف آمرا وعن المنكر ناهيا.. فهل يليق بعد كلّ هذا أن يختزل الحسين في عاشوراء من سنة 61هـ، وهو الذي عاش بعد البلوغ فقط ما يفوق 45 عاشوراء؟ لماذا يدفن تاريخ الحسين وتدفن سيرته العطرة؟ لماذا يُصرف بعض المسلمين عن الاقتداء بسيرته إلى البكاء واللّطم عليه مع أنّ روحه الطّاهرة هي الآن تسرح وتمرح في أعالي الجنّة؟ لماذا يُصوّر الحسين في صورة الشّاة التي انقادت إلى مذبحها، حاشاه –رضيَ الله عنه- وأرضاه وهو البطل الهمام والأسد الضّرغام الذي فتح الفتوح وأرعب الأعداء وكان مثلا في الشّجاعة والقوّة والحماسة؟
الحسين –رضي الله عنهُ- لم يُظلم في محرّم من سنة 61هـ فقط، لكنّه لا يزال يُظلم في محرّم، من كلّ عام عندما تطوى سيرته العطرة ويُقصر الحديث حول استشهاده.. وهو الظّلم الذي قادنا إليه المفتونون من الشّيعة ليشغلونا عن الاستفادة من نهضة الحسين –رضيَ الله عنه- في الخروج بالأمّة من الذلّ الذي تعيشه في هذا الزّمان، وعن مناقشة حقيقة الدّين الذي نهض الحسين للذّود عنه وإقامته؛ وطرح أسئلة مهمّة من قبيل: هل نهض الحسين ليُقيم دينا يقوم على لعن أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وحفصة! وعلى لزوم الإيمان باثني عشر إماما معصوما يعلمون الغيب ولا يسهون ولا ينسون! وعلى اللّطم والتّطبير والأخماس والمتعة؟! هل سمع الحسين –رضيَ الله عنه- بهذا الدّين؟ وهل اعتنقه؟
في كلّ عام نسمع من بعض المفتونين من يلوم ويذمّ أهل السنّة على أنّهم لا يتوسّعون في الحديث عن كربلاء، ويزعم أنّ علماء أهل السنّة لا يتحدّثون عن كربلاء (!) خوفا من تشيّع العامّة (!) وكأنّ من يسمع عمّا حصل للحسين وأهل بيته في كربلاء، سيقتنع لا محالة بأنّ ريحانة رسول الله –صلّى الله عليه وآله وسلّم- كان شيعيا اثني عشريا، وأنّه ما قُتل في كربلاء إلا لأنّه كان يريد أن يردّ الأمّة إلى هذا المذهب الذي تستشنعه الفطر وتمجّه العقول، ولا يمكن أبدا أن يعتنقه صحابيّ حظي بجلسة واحدة بين يدي نبيّ الهدى عليه الصّلاة والسّلام، فضلا عن أن يعتنقه حفيده الذي تربّى ونشأ على مائدة الوحي! وهكذا يحاول المفتونون في كلّ عام صرف من يجادلهم، عن السّؤال عن علاقة الشّيعة بالحسين، وعن مدى صدق انتسابهم إليه واتّباعهم له، إلى مساحات أخرى.. الحسين –رضي الله عنهُ- بريء من مذهب التشيع براءة نبيّ الله عيسى –عليه السّلام- من النّصارى، وأولى النّاس بالشّهيد السّعيد هم جمهور الأمّة الذين أحبّوه واتّبعوه وتبرّؤوا إلى الله من قاتليه والرّاضين بقتله.
أهل السنّة يتحدّثون عن استشهاد الحسين –رضيَ الله عنه- وعن واقعة كربلاء أكثر من حديثهم عن استشهاد عبد الله بن الزبير –رضيَ الله عنه- وعن واقعة “جوار الكعبة”، لأنّ الحسين أفضل وأكرم عندهم من عبد الله بن الزبير، وقد أفردت مصنّفات كاملة لواقعة كربلاء، ولا يخلو كتاب من كتب التواريخ والسير من ذكر هذه الواقعة الأليمة، لكنّهم –أهل السنّة- ينظرون إلى سيرة الحسين نظرة شاملة ولا يقتصرون على الأيام الأخيرة من حياته، حتى تكتمل الصّورة ويُعرف الحسين ويُعرف الهدف الأسمى والدّين الأكمل الذي نهض لإقامته.
الأمّة في مثل هذه الأيام العصيبة التي تمرّ بها، أحوج ما تكون لأن تَعرض سيرة الحسين بنقائها وصفائها وشمولها، لتتعلّم منها عدم الرّكون إلى المحتلّ الباغي، وتتعلّم وجوب نصرة الفئة التي تقوم بالنيابة عن الأمّة لتستردّ عزّها وتردّها إلى موقعها في ريادة الأمم.. فلسطين تنتهب، وغزّة تُباد، ونحن أحوج ما نكون إلى “الحسين” الصّحابيّ الذي تربّى على مائدة الوحي، وتعلّم منها أنّ المسلم لا يرضى أبدا بالدنية في دينه، ولا يقبل أبدا أن تُذلّ أمّته ويتسلّط عليها المتسلّطون.