-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الحس الجمالي في فكر مالك بن نبي

أبو جرة سلطاني
  • 652
  • 0
الحس الجمالي في فكر مالك بن نبي

سنة 1977 وقع بين يدي كتاب عنوانه (حديث في البناء الجديد) لصاحبه مالك بن نبي. وهو عبارة عن مجموعة مقالات (أو محاضرات) جمعها وترجمها الأستاذ عمر كامل مسقاوي ونشرها سنة 1960 (قبل استقلال الجزائر بعامين وقبل وفاة المؤلف بثلاثة عشر عاما). قرأت الكتاب بكثير من الدهشة ودققت ما فيه بقلم الرصاص، والقراءة بقلم الرصاص عادة متأصلة في منذ صغري غايتها انتقاء ما في الكتاب من أفكار مغذية للفكر والروح، وكنت كثيرا ما أصاب بالإحباط إذا قرأت كتابا ولم أجد فيه ما أضع تحته خطا.
هذا الكتاب اضطرني إلى بري قلمي عدة مرات لكثرة ما سطرت فيه من فوائد تعيد “هيكلة العقل” وتشكيل الشخصية على أبدع طراز. وهو ما ترك في نفسي مشاعر متناقضة مشحونة بأسئلة وجودية: هل أنا مسلم؟ هل لوجودي من فائدة؟ ماذا قدمت لأمتي؟ هل لي عقل يفكر أم أنني أجتر عادات لفظية أحسبها فكرا وليست سوى أكوام من التبن..؟؟
قراءة هذا الكتاب حملتني على دخول عالم مالك بن نبي (رحمه الله) فتعرفت على “تيار الجزأرة” وسعدت برفقة الطالب الطيب برغوث (في كلية علم الاجتماع) ورفيقه عزوز بوساحة والطالب حسن خليفة (في كلية الآداب) وآخرين.. فبرفقتهم وبمحاوراتهم عرفت طريقي إلى “مشكلات الحضارة” فقرأت أغلب مؤلفات فيلسوف النهضة الذي برع في نحت المصطلحات التي تختزل لك السهل الممتنع فتحسب أنك قادر على توسد خطاه فإذا وضعت قدمك على أولى درجات سلّم التفكير المنهجي الصاعد إلى البناء الحضاري زلت قدمك على أرضية التقليد والاجترار والقابلية للاستعمار الفكري والثقافي والحضاري لتواجه حقيقة “وجهة العالم الإسلامي” وتكتشف ترسب الموروث الذي يجعل المعلول يرفض تشخيص مرضه لأنه يخشى العلاج ويرضى بالمعاناة حتى “الموت الحضاري” الذي عليه عالم ما بعد الموحدين باكتساب أفراده القابلية للتخلف.
الذي أخذ بمجامع قلبي في كتابات مالك بن نبي (رحمه الله) خمس ميزات تفرد بها مجتمعة، ربما بسبب ثقافته العلمية وتخصصه في أدق فروع الكهرباء..!! أدونها رؤوس أقلام وأتنازل واحدة منها فحسب.
– وضوح فكرته كأنه يرسمها بالقلم.
– دقة انتقاء العبارة التي يوصل بها فكرته.
– استفزاز العقل ليفكر في ما وراء المقترح.
– رد الفروع كلها إلى أصل واحد هو ضمير الإنسان.
– الحس الجمالي المتمثل في دقة الملاحظة وفي رد ظاهر المشكلة إلى حقيقة البذرة التي هي ثمرتها.
حول هذا الملحظ الأخير، سأسوق بعض ما رسم قلمه وبعض ما صدحت به كلماته في محافل كثيرة حضرها ودون ملاحظاته حول أشياء وسلوكات صغيرة ظاهرة يخالها الناس شكلية وهي لب المشكلة وجوهر التخلف وسبب الهزائم كلها. وأبرع ما فيها صياغتها في أجمل عبارة وبأيسر أسلوب لبيان خطورتها على الأمة التي لا تفرق بين ثمرة التخلف وأسبابه.. فيضرب لها أمثلة حسية جميلة لبيان الفرق صورة الشيء وحقيقته. ومن ذلك:
الفرق بين أمة الإسلام وبين الشعب الياباني؛ فيشبه الأمة الإسلامية بـ”الزبون” الذي يشتري كل ما يحتاج من عالم الأشياء. ويشبه الشعب الياباني بـ”التلميذ” الذي يتعلم من أستاذ- في عالم الأفكار- لينتج بنفسه ما تحتاجه أمته. ويخرج بنتيجة منطقية محسوسة مفادها: أنه بين 1945 – 1965، صار التلميذ (الذي تلقى آباؤه قنبلتين ذريتين) أستاذا. بينما بقي الزبون (الذي عانى آباؤه ويلات الاستدمار) يتردد على موائد من احتله بالأمس يشتري من سوقه الغذاء والدواء والكساء ومواد البناء..
– فالتلميذ كائن مفكر بانتمائه إلى عالم الأفكار.
– والزبون كائن مستهلك منتم إلى عالم الأشياء.
وهي صورة حسية مازلنا نشهد آثارها بعد أن رسمها لنا بحس جمالي مر عليه ستون عاما.
وعندما حضر “مؤتمر باندونغ” بإندونيسيا سنة 1955 (وهو المؤتمر الذي تكرست فيه فكرة عدم الانحياز) سجل- على هامشه- ما لا يملك غيره ملاحظته لافتقار كثير من الناس لملكة دقة الملاحظة وعجزهم عن صياغة ما يلاحظونه إذا لم يكونوا مالكين لحسن جمالي راق ولذوق فني يصور لك المنقول كأنك تراه رأي العين.
ذكر أن المتحدثين الذين تداولوا على منصة الخطابة ثلاثة أصناف يمثل كل صنف “طبيعة ثقافة” البلد الذي جاء منه.
1 / صنف يتكلم كثيرا ويهدر الوقت المخصص له دون أن يقول شيئا وهو كائن مجتر لا يقدر قيمة الوقت ولا يحسن التعامل مع نظرية (إنسان + تراب + وقت = حضارة). فيضطر رئيس الجلسة إلى قطع كلمته قبل أن يبلغ الرسالة التي جاء من أجلها.
– وصنف يستعجل الوقت فيقول كلمات قليلة لا تفي بالغرض ثم يسكت وينصرف. وهو صنف لا يقدر المسؤولية التي وضعها قومه على عاتقه (فيخون) أمانتهم بالتفريط في الوقت المخصص له للمرافعة عنهم وبإهدار الحق الممنوح له.
– وصنف يطابق بين الوقت المحدد له وبين الرسائل التي جاء ليبلغها الحضور. وهذا الصنف هو المنتمي- غالبا- للفاعلية التي تقدر قيمة الوقت وتجعله ظرفا للانجاز مهما كان مقتضبا من منطلق أنه جزء من حركة الحضارة.
فالتغيير في حسه الجمالي يبدأ من داخل النفس ويتفاعل مع بيئته في صيرورة زمنية تصاعدية لها شكل لولبي (خلافا لتصور ابن خلدون وتوينبي للحضارة). فعنده يبدأ بناء الحضارة من بناء النفس: غير نفسك يتغير للتاريخ، وهناك حالتان للإنسان الفاعل والمفعول به (إما أن تغير وإما أن تتغير). فالوثنية جاهلية. والجهل وثنية لا تعبد أصناما وإنما تنتج أفكارا ميتة أو أفكارا مميتة. وتروج لأفكار مريضة أو أفكار ممرّضة. وهذا حضيض الوثنية. ليصل إلى بيت القصيد- كما يقال- وهو أن الإنسان هو محور التغيير ولكنه يصبح عاجزا عن تغيير ما بنفسه إذا ظل حبيس عالم الأشياء يمجد التاريخ ويعظم الأشخاص ولا يتخطاهم إلى عالم القيم لعجزه عن بلوغ “حالة التوتر” التي تنتج طاقة تتجمع ليتم توجيهها نحو غاية كبرى هي تحرير إرادة الانسان الصانع للحضارة.
المتعة التي يجدها المرء في قراءة كتب الأستاذ بن نبي متعة مزدوجة: متعة تستفز عقلك ليفكر. ومتعة تحررك من عاداتك الفكرية فتكتشف أنك كنت- قبل القراءة- ضحية صناعة عالم الأشياء وليس لك من “الفكر الحر” سوى ما تم حشوه في دماغك لتظل حاملا للقابلية للاستعمار الفكري والروحي والثقافي والحضاري.. وبداية التغيير من داخل نفسك بإعادة “هيكلة عقلك” على قاعدة: “أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!