-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الحضارة ليست فضفضة لغوية

محمد بوالروايح
  • 1262
  • 10
الحضارة ليست فضفضة لغوية
ح.م

عاد بعض الكتاب المسلمين إلى الحديث عن الاستئناف الحضاري الإسلامي، يشدهم إلى ذلك الحنين العاطفي إلى حضارة إسلامية قدر الله لها أن تعمر قرونا متطاولة قبل أن يأفل نجمها وتتحول إلى حكاية ماضوية بسبب أن من ورثوها لم يرعوها حق رعايتها ولم يفقهوا النواميس التي تحكمها وتعاملوا معها بمقولة “دعوها فإنها مأمورة” وظنوا أنها باقية ما بقيت السموات والأرض ونسوا أن الحضارة كأي مكون مادي وإنساني يحكمها قانون الأخذ والعطاء.

إن حديث بعض الكتاب المسلمين عن الاستئناف الحضاري ليس إلا فضفضة لغوية وشكلا من أشكال تجديد الولاء العاطفي لحضارة إسلامية انتهت واختفت عن مسرح الحياة بسبب ما كسبت أيدينا سلفا وخلفا، وليس هناك في الأفق القريب والبعيد -حسب الدراسات الحضارية الاستشرافية- ما ينبئ بعودتها بل جل هذه الدراسات إن لم تكن كلها تنبئ بسبات حضاري إسلامي مستمر لا يدرك مداه.

الحضارة فعلٌ إنساني لا يمكن أن يتحقق في غياب الفاعل وهو الإنسان، وهي أيضا نتاج العقل الإنساني، ولا يختلف اثنان في أن العقل الإسلامي قد فقد قدرته على الإبداع منذ سنين الضياع ولم يعد صالحا للتفكير الحضاري إلا ما كان على سبيل التكرير والتدوير.

والحضارة قيمة مادية وأخلاقية ترتقي أو تهوي حسب ما يجتمع في كنانتها من حشد مادي وسمت أخلاقي، وانتفاء أحدهما أو كليهما هو انتفاء للحضارة، والواقع الإسلامي ينبئنا بأن هذه الثنائية القيمية غائبة أو بالأحرى مغيّبة بعد أن تحولت المجتمعات الإسلامية إلى مجرد تجمعات رقمية غير قيمية لا تعير وزنا للدرس الحضاري إلا ما كان من شاكلة الفضفضة اللغوية التي يميّزها الحشد اللغوي الذي يبالغ أصحابه في وصف الفعل الحضاري بما يجتمع عندهم من مصطلحات ومحسنات وكفى الله المؤمنين القتال.

لا يجد كثير من الكتاب المسلمين الذين يكتبون عن الاستئناف الحضاري شيئا ذا بال ينمقون به كتاباتهم إلا ما أخذوه واقتبسوه من “مقدمة ابن خلدون” أو “شروط النهضة” لمالك بن نبي، وقبل هذا وذاك ما حفظوه من نصوص قرآنية تأولوها أو طوعوها لتوافق توهماتهم وتخرساتهم حول الحضارة.

ما كتبه ابن خلدون عن العمران البشري والذي يعدّ مرجعا لكثير من المهتمين بغائية ومضامين الفعل الحضاري ليس صناعة لغوية غارقة في التوصيف وإنما هو مادة معرفية قابلة للتوظيف في الواقع الإنساني، ومن ثم فمن الخطأ أن يبقى بعض الكتاب المسلمين رهائن اللفظ دون الغرض ورهائن المبنى دون المعنى يلوكون بعض المصطلحات الخلدونية ويستخدمونها في سياقات ولمآلاتٍ لا تنبني عليها فائدة في الدراسات الحضارية.

وما كتبه المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله عن شروط النهضة يجب أن لا يبقى موضوعا لدراسات حضارية نظرية تحتفي بالفكر احتفاء نظريا ولا تجتهد في تحويله إلى منتوج حضاري كما فعلت ماليزيا وتركيا، التي جعلت من فكر مالك بن نبي منطلقا لنهضة حضارية تزداد تألقا مع تعاقب الليل والنهار.

من العبث أن يهدر كثير من الباحثين المسلمين أوقاتهم ويفنون أعمارهم في تعقب مكامن الخلل الحضاري في السنين الخوالي ونسبته إلى “بني أمية” أو “بني العباس” أو غيرهما فـ”تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون”. يجب أن يتوقف هذا العبث وأن تتجه همة الباحثين المسلمين المعاصرين إلى تدارك الخلل الحضاري بآليات جديدة تستأنس بالماضي وتؤسس عليه وتزيد عليه بما يتماشى مع روح العصر وتطور الفكر.

أليس من العبث أن تجد – وأنت تتصفح ما كتبه الكتاب المسلمون عن الاستئناف الحضاري- سيلا من المؤلفات والمصنفات تستمتع بما فيها من صناعة لغوية ولا تجد فيها في المقابل شيئا يصلح لأن يكون قاعدة لاجتهاد حضاري جدي يخرج فكرة الاستئناف الحضاري عن دائرة التوصيف الشكلي إلى دائرة التوظيف الفعلي؟

إن بعض من يتحدثون عن الاستئناف الحضاري هم أنفسهم معوق من معوقاته بسبب فكرهم الماضوي الاختزالي الوصفي الذي يتباكى على الحضارة الإسلامية وهو قاتلها، ويحرض المسلمين على توفير شروط هذا الاستئناف الحضاري وهو نفسه فاقد لهذه للشروط جملة وتفصيلا.

ما قيمة أن نبدع في توصيف الحضارة ونحشد لذلك ما قرأناه عنها في كتابات الأولين والآخرين ولكننا نجد أنفسنا عاجزين عن توظيف الفكرة الحضارية توظيفا واقعيا يتحول معها الخيال الوصفي إلى واقع فعلي؟

ما قيمة أن يتغنى بعضنا بما نمتلكه من رصيد تراثي قيمي إنساني ونحن عاجزون عن تجسيد مكونات هذا التراث في الواقع ثم ندعي بعد ذلك الخيرية والأفضلية والصلاح، وعاجزون عن تحويل المكون الإنساني في الدين الإسلامي إلى أخلاق إسلامية إنسانية؟

ما جدوى أن يتحدث بعضنا عن الاستئناف الحضاري الإسلامي وهو يعلم بأن النهايات تُبنى على البدايات وأننا بشهادة بعض المؤرخين المسلمين لم نحسن البدايات فأنى لنا أن نحسن النهايات؟ إن الاستئناف الحضاري عملية حضارية معقدة تتطلب فكرا حضاريا راقيا ونحن على ختم الله لا تتحقق فينا قليل ولا كثير من مواصفات هذا الفكر.

إن بيننا وبين الاستئناف الحضاري فجوة حضارية هائلة لا يملأها إلا فكر حضاري إسلامي واع يعي أصحابه بأن الصلاح الذي يتحدث عنه قول الله تعالى: “ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون” لا يعني فقط الصلاح النفسي وإنما يعني أيضا الصلاح الحضاري، أي أن نمتلك الأهلية لقيادة البشرية من جديد كما كنا منذ أمد بعيد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
10
  • جزائر العجائب

    ل 7 : لا لتزوير التاريخ فالفضل في ظهور ما عرف بالحضارة الإسلامية يعود للعجم فإبن سينا والغزالي فرس وابن بطوطة وإبن رشد والإدريسي أمازيغ والخوارزمي والبيروني من أوزباكستان الحالية .. وكل هؤلاء يعتبرهم العرب عربا فيقولون عن إبن سينا مثلا : عالم وطبيب عربي ولد في .. والف عدة كتب .. الخ أما كلامك حول اللغة العربية فاللغة يا رجل لا تؤخر ولا تقدم فكل اللغات صالحة فما تنتجه الإنجليزية يمكن أن تنتجه العربية والفارسية والهندية والامازيغية والعبرية ...فاللغة تتقدم وتتخلف بأبنائها فالعربية ومنذ أن بقيت بين أحضان أبنائها العرب فهي لا تنتج سوى الكوارث والمصائب : خرافات وشعوذة ... وما خفي أعظم

  • صالح بوقدير

    اولا وقبل كل شيء الحضارة يصنعها الانسان وليس العكس وما دام الانسان مهمش في البلدان العربية بالخصوص فلن تقوم لها قائمةمادام الحال كذلك ومن يظن أن الحضارة تشترى أوتستورد فهو واهم
    أما عن الاستئناف الحضاري فهو ممكن ولا أحد له الحق في أن يحجر على عقل الامة فالذي استطاع أن ينشئ يستتطيع أن يستأنف سيما وأن الحضارية إنسانية بالخصوص ولكن لايمكن المراهنة لاعلى الذي يقول عكس ما يفعل ولاعلى المستلب والمخطوف فكريا.

  • م.ب ( يتبع)

    المهم في هذا كله ؛ وحتى نضع الامور في سياقها الصحيح.أن الحضارة العربية الصرفة . توقف بها الزمن .. عند نزول الاية القرآنية :. ( .. اليوم أكملت لكم دينكم ؛ وأتممت عليكم نعمتي؛ ورضيت لكم الاسلام دينا..) ليبدأ الزمن الحضاري في دورة جديدة أوسع؛ واشمل ؛ وعناصر جديدة ( الانسان- والمزكان)؛ وبمفهوم جديد ( الاسلام) - اضافة الى العناصر ( ح ع) السابق ومتمثلة في اللغة العربية ؛ والعاطفة القومية ؛ والارث المادي؛ والشفوي أوالشفهي.. معاول الهدم مشتركة بين العرب؛ والمسلمين . فاذا سحبنا المقولة " التاريخ يصنعه الاقوياء" على الحضارة . فالهدم يكون من الاقوياء ( عددا) وهم المسلمون. ؟ وحاشا.؟!!

  • جزائري

    إلى المعلق رقم 6 العرب و إخوانهم المسلمين شيدوا حضارتهم التي كانت حضارة العالم خلال القرون الوسطى باللغة العربية والثقافة العربية والتي إستفد منها الإربون فى بناء نهضتهم الحديثة والشعوب منغير العرب التي تنسب إليها أنت منجزات الحضارة العربية لماذا لم تنجز هذه الحضارة قبل دخولها فى الإسلام و قبل تعلم اللغة العربية التي أنتجت بها هذه الحضارة ؟فلم يوجد أثرا علميا أو أدبياواحدا كتب بلغات تلك الشعوب التي ذكرتها والسبب أنها لم تكن لتلك الشعوب لغة أصلا عدا اللهجات الشفهية التي كانوا يتخاطبون بها فقليل من الموضوعية ولاتتركوا العاطفة تتغلب على تفكيركم و تعميكم عن رؤية الحقيقة .

  • لحميدي

    لو كانت الحضارة عربية ، لكانت مكة والمدينة عواصمها وليس دمشق وبغداد وسمرقند وغرناطة ، إلخ. مثل المغول ، غزا العرب دولًا متحضرة بالفعل واستغلوا المعرفة على الفور. لقد فاز العرب بسيادة السلاح والوحشية التي سمحت لهم بالسيطرة على مناطق شاسعة. استفادوا من معرفة الآخرين لا أكثر ولا أقل. وبمجرد أن استولى الثيوقراطيون المسلمون العرب على السلطة المطلقة ، غرق ما يسمى بالحضارة الإسلامية في الفراغ. العرب لم يبنوا اقتصادات ، لقد أستغلوا ثروات الآخرين. لو كانت مكة مهمة حقًا في ذالك الوقت ، لما كان يدمرها الحجاج بن يوسف أبداً.

  • م/ أولاد براهيم.

    " ... انها لاتعمى الابصار.؟ ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.." الاستاذ يشخص مرض أصاب الخضارة الاسلامية . لا العربية التي انتهت كحضارة قائمة بنفسها بعد مجيئ الاسلام؛ اتشاره ووقع التمازج؛وأخذ .العطاء؛ والاخذ ؛ والتأثر؛ والتأثير .دورتهمابتداخل فاعلين جدد سماهم المعلق رقم 1 باسمائهم؛ وهذا شرف لنا نحن العرب.. ديننا المنفتح . عروبتنا المتسامحة اكتسبت اخوة لنا جدد لهم مالنا وعليهم علينا . لكن ذوي القلوب المريضة لاينظرون لهذه الخاصيات الجميلة .! الا بعين الربى؛ وما جمعت أفكارهم من مصطلحات تهم ؛ وقذف وقدح . لا مة قد خلت لها ؛ مالها ؛ وعليها ما عليها ... عميت أبصاركم؛ وقلوبكم..

  • جزائري

    - أول شرط للإنطلاق الحضاري يتطلب التخلص من التبعية السياسية والإقتصادية والثقافية للإستعمار القديم والحديث ، لأن من أسياب التخلف الحضاري الذي تعيشه بلدان العالم الإسلامي هو تعرضها للهيمنة الإستعمارية التيلاتزال إلى اليوم مستمرة فالغرب مصمم على منع قيام أي مشروع تهضوي لدى العرب والمسلمين سواء عبر التخل العسكري المباشر أو بالحصار الإقتصادي وماحدث للعراق ويحدث لإيران لخيرد ليل على ذلك .
    - الإنطلاق الحضاري يبدأ من تحرير الذات مع الإنفتاح لىالعالم للإستفادة من الفكر الإنساني وعلوم
    - العصر ومنجزاته .
    - الإنطلاق الحضاري ينبني بالعلم والأخلاق والإرادة السياسية لرسم الخطط الإستراتيجية للمستقبل

  • الطيب ــ 2 ــ

    أحييك أستاذعلى تطرقك لمكمن الداء ...الحضارة صناعة و ابداع و فن في كل منظور و ليست " هدرة من أجل الهدرة " ...الحضارة واقع نأمله و نتألم لأننا نعيش على هامشه كما أننا لا يمكن أن نحققه بالهدرة ...
    أهل السياسة لا يصنعون الحضارة بل في الكثير من المرات هم الذين يحطمونها ..الذي يصنع الحضارة هو ( نخبة المجتمع مع المجتمع إن وُجدوا و توحدوا ! ).و إن وُجدوا عليهم أن يفرضوا وجودهم فرضًا بفرض أفكارهم الحضارية و تساؤلاتهم المشروعة على أهل السياسة و التي منها : لماذا نعيش التخلف و غيرنا قطع مسافات طويلة في التحضر ؟! أما إذا كانت هذه النخبة تحمل هذه الصفة و موجودة و " خلاص " فذاك شأن آخر ..

  • الطيب ــ 1 ــ

    " الحضارة " تحصيل حاصل لما يسبقه من تغيير جذري في كيان الإنسان ..و التغيير الجذري الداخلي في الإنسان هو قضية القضايا لأنّه لا يمكن تحقيق الفعل الحضاري أو الانطلاقة الحضارية بغير إنسان سوي يشرف و ينفذ هو المشروع الحضاري خطوة خطوة ....الإنسان هو المحور ، هذه قاعدة تنطبق علينا كأمة الإسلام أو على أمم أخرى سواء بأخذ الخصوصية في الحسبان ...لذلك جاءت فكرة التربية و التعليم التي تهدف إلى إنشاء الإنسان الصالح الذي يصنع الحضارة آليًا في النهاية .
    نحن أهملنا الإنسان لذلك لم نصنع حضارة و اليوم نعيش التيه على فتات الحضارات..! و الإنطلاقة من هنا يا أستاذ ( البحث عن إنساننا الذي ضاع منا )..

  • عبد الله

    لن تستانف اي حضارة للعرب...لان الذين صنعوا الحضارة الاسلامية هم الاعاجم من الفرس والكرد والاقباط والامازيغ ....هؤلاء انسحبوا الى قوميتهم ما دام الاعرابي يتنكر لاسياد التحضر.. الاعرابي مستهلك فقط ..الخطر الذي يهدد الحضارة الانسانية هو الانسان الاعرابي وهذا مايتجلى في بلدانهم...