الحق الذي أريد به باطل

حتى قبل أن يعلن “ماكلوهان” على أن العالم بات قرية صغيرة في عالم متحول تكنولوجيا ضمن حقل الاتصالات، كان العالم قد بدأ يتجه صوب وجهة الإمبراطورية الإعلامية التي لا تغيب عنها الشمس، كانت في الواقع اكتشافات “غتنبورغ” قبل نحو ثلاثة قرون مجرد بروفة ثانية خافتة لما سيتحقق فيما بعد على يد الآلة البخارية وصولا إلى البطارية فالشريحة الذكية التي جمعت العالم في قبضة يد متحكم به بزُرّ تحت أصابع اليد.. وهذا مع العولمة الليبيرالية التي طبعتها أصلا رأسمالية القرن الثامن عشر، عِبر الثورة الصناعية الأولى مرورا عبر ثورة التغيير البروتستانتية التي بشّر بها “لوثر كينغ” وحلّلها “ماكس فيبر” في “الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية”.
ماكلوهان وهو يشير إلى تقلص العالم بالتزامن مع تمدده، أعرب عن مدى إعجابه بما حققته ثورة عالم الاتصال عبر مفهوم الحرية في الوصول إلى المعلومة وتداولها ونشرها، واستبدالها خاصة، فالعالم الجديد هو عالم الشراهة الاعلامية، عالم الاستهلاك السريع والمفرط للمعلومة وفي طرق توصيلها وايصالها بأسرع وقت في الحين والساعة عبر الصورة المتحرِّكة المباشرة.
تملّك الخصوصية صار في الغرب مطلبا اقتصاديا وتمارين والدعوة لحجب الخصوصية عن وسائل الإعلام والاتصال ووسائل التواصل الاجتماعي في المجتمع الافتراضي بات يمثل تعدِّيا على حريات الأفراد في عدم الخوض في الخصوصيات الفردية والشخصية، بما يعني عرقلة الاستثمار في المعلومة التي لم تعد مجرد سلاح، بل تجارة سلاح مباح.
هذا هو السر وراء الإلحاح على نشر وسائل الاتصال ووسائط التواصل على نطاق واسع ليشمل حتى القرى الصغيرة المتناهية الاقصاء، والتهميش الاقتصادي. الغاية تبرر الوسيلة: تسريع ثقافة الاستهلاك بلا حدود وبلا قيود: بلا أخلاق وبلا ضوابط.
في خضمِّ هذه التحولات والدعوات لدمج الخاص في العامّ واستباحة الخصوصيات المجتمعية والأسرية والفردية التي تدعو لها النيوليبيرالية وتبشِّر بها كحزمة حريات مقدسة، لو كانت عرفيا مدنَّسة، نحن مطالبون اليوم إعلاميا بمعرفة رهانات الحاضر والمستقبل عبر ما يحضَّر لنا في مخابر الاستهلاك الإعلامي ودعاة الحرية بلا حدود.. ولو بالشذوذ، وإدراك واستدراك ما كان يلقَّن لنا غربيا بشأن حرية الإعلام والصحافة والحق في الوصول إلى المعلومة وحماية المصدر وقاموس الأدبيات الإعلامية و”أخلاقيات مهنة المتاعب” ومتاعبها، والتي لم تكن في الواقع إلا تحضيرا لتقبُّل واقع جديد يسمح بالخوض في الأعراض وتجارة الفضائح التي تمثّل اليوم صلب المادة الاستهلاكية الإعلامية بعد أن استنزفت مكامن ومناجم المنجِّمين وسحرة إعلام تجارة الإثارة والسبق الصحفي.. مع كل العلم بأنّ لكل شعب خصوصية ثقافية ودينية وأخلاقية لا تسمح له، اجتماعيا وعرفيا، بالخوض في مواضيع، أصلا لا يجب إقحامها في بورصة حرية المعلومة والإعلام…
وعليه، صرنا نعتبر الإهانة والسب والشتم والقذف، والإساءة إلى الرموز الوطنية والدينية، ونشر واعادة نشر بدون تمحيص كل ما يرد إلى حساباتنا، وكأنها حقائق منزَّلة، دون مراعاة صحتها من عدمها.. مع أننا أحيانا ندرك ونعي ونؤمن بقوله تعالى “.. إذا جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبيَّنوا”.. فلا نتبيَّن، ونصدِّق على الفور، ونعيد النشر، عبر “إيديولوجيا البارطاج المسيحي الذي دنَّسوه”، وعبرالتضليل، واعدة توزيع المغالطات والخداع لحساب صانعي محتويات مدسوسة سمًّا في دسم، باسم الدين أحيانا والوطنية أحيانا والعرق واللغة والجنس والجنسية أحيانا أخرى: ملفِّقون ومروِّجون للادِّعاءات والأباطيل، يضحكون على ذقوننا من خلف شاشات خلف البحار والحدود الوطنية أحيانا، عملا لأجندات عدوة ومشبوهة، صارت الشبهة اليوم مكشوفة لدى العامة الا من تعامى عنها.