الخُلع في المجتمعات العربية.. الواقع والأسباب

تتداول مختلِف وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعيّ، أواخر كلّ عام ميلاديّ إحصاءات مفزعة تتعلّق بواقع الأسرة في الدول العربية، تشير بعضها إلى أنّه يتمّ تسجيل عشرات الآلاف من حالات الخلع في العام الواحد في البلد الواحد، وهو رقم هائل ومفزع، يدعو إلى القلق على مستقبل الأسر المسلمة، ويحتّم على الأئمّة والدّعاة ورجال الإعلام أن يعلنوا حالة الاستنفار لتدارك ما يمكن تداركه.
من المؤسف حقيقة، أن نرى بعض الأوساط المتحيّزة وبعض الجمعيات النسوية التي تزعم الدفاع عن حقوق المرأة، لا تزال تصرّ على أنّ الرّجال وحدهم هم السّبب، لأنّهم يتسلّطون على الزّوجات ويظلمونهنّ، بل إنّ بعض المنسلخات يُشرن بأصابع الاتّهام إلى البقية الباقية من المواد القانونية المستمدة من الشريعة الإسلامية في قانون الأسرة! لم تكفهنّ التعديلات المتعاقبة التي أجريت، وما زلن يطالبن بالمزيد من التحرّر من أحكام الشّرع، وبمزيد من الحقوق التي تحوّل الرّجل إلى خاتم في يد زوجته، تخلعه في الوقت الذي تريد وكيفما تريد.
أيها الرّجال المتسلّطون!
حقيقةً وواقعا، هناك بعض الرّجال يتسلّطون ويظلمون زوجاتهم، وتسلّط هؤلاء الرّجال لا شكّ في أنّه أحد أهمّ أسباب زيادة حالات الخلع، لكنّه ليس هو السّبب الأوّل والأهمّ، وهؤلاء الرّجال ليسوا هم الغالب، وتسلّطهم ليس من الدّين ولا من الشّرع في شيء، والواجب أن يذكّروا ويوعظوا ويخوّفوا بالله -جلّ وعلا- الذي قال: ((وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا))، وينذروا بحديث النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم- القائل: “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، ما أكرمَ النساء إلا كريم، ولا أهانَهنَّ إلا لئيم”.. هؤلاء الرّجال الذين يتسلّطون على زوجاتهم، ينبغي أن يعلّموا أنّ النبيّ الخاتم الذي يشهدون أنّه رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- ويرجون شفاعته يوم القيامة، كان “إذا خَلا في بيتِه كان أليَنَ الناس، بسَّامًا ضَحاكًا، وما ضرَب امرأة له ولا خادِمًا قط”.. اقرأها مرّة أخرى أيها الزّوج، يا من تجلس مع خلانك في المقهى تضحك وتقهقه وتتدفّق بالمزاح، لكنّك إذا دخلت بيتك تحوّلت إلى سبع ضار، لا تبتسم ولا تمزح، وإذا ما ابتسمت زوجتك في وجهك كشّرت في وجهها وقلت: ماذا تريدين؟ قدوتك -عليه الصّلاة والسّلام- كان إذا خَلا في بيتِه كان أليَنَ الناس، بسَّامًا ضَحاكًا.. قدوتك الذي فرض الله عليك طاعته واتباعه، تذْكُر كتب السيرة أنّه قضى 25 سنة من شبابه مع خديجة بنت خُويلِد -رضي الله عنـها- لم يتزوَّج عليها ولا أحبَّ أحدًا مثل حبِّه لها، وظلَّ طوال عمره يَذكرها ويُكرم صديقاتها وصويحِباتها، وتذكر كتب السيرة أيضا أنّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- حج بنسائه، فبرك بصفية جملها فبكت، فجاء –عليه الصّلاة والسّلام- لمّا أخبروه، فجعل يمسح دموعها بيده، وهي تبكي وهو ينهاها.
تعديلات زادت الطّين بلّة!
تسلّط بعض الأزواج هو أحد أسباب انتشار الطّلاق واستشراء ظاهرة الخلع، لكنّ هذا ليس هو السّبب الأوّل والأهمّ، السّبب الأوّل هو تلك التعديلات التي أدخلت على قوانين الأسرة في البلدان العربية ويسّرت للمرأة سبل التخلّص من زوجها لأسباب تافهة أو حتى من دون أسباب.. تعديلات هدّت كيان آلاف الأسر، وشرّدت عشرات الآلاف من الأبناء، حيث حرّضت الزّوجات على أزواجهنّ، حين أصبح الخلع قرارا تتخذه الزوجة من دون الحاجة إلى موافقة الزوج، وأصبح سكن المرأة الحاضنة حقا مطلقا لا شروط ولا قيود له، بل ومن غرائب التعديلات أنّ الزوجة التي كانت حال الزواج من دون مسكن أو تسكن بيتا قديما، تلزم طليقها بعد خلعه بتوفير سكن ملائم، وإن تعذر عليه ذلك ألزم بأن يدفع للمختلعة مبلغا ماليا لإيجار مسكن.
حينما أحسّت النّساء باستغنائهنّ عن الأزواج!
من أهمّ أسباب انتشار الخلع في بلداننا، أيضا، استقلال كثير من الزوجات في السنوات الأخيرة بوظائفهنّ ورواتبهنّ وأموالهنّ، حتى غدت الواحدة منهنّ تشعر بأنّها مستغنية عن زوجها، وأنّه مخلوق زائد في حياتها، خاصّة إذا كانت أعلى مستوى دراسيا منه، وأعلى راتبا منه، تشعر أنّها مستغنية عنه، وترى أنّه لا قوامة ولا سلطة له عليها؛ فتظهر قلّة احترامها له، ولا تسمع له كلاما ولا تأتمر له بأمر، بل ربّما ترفع صوتها في وجهه وتمنّ عليه بمالها، وتخيّره في كلّ مرّة بين السّكوت والإطباق وبين الطّلاق والفراق، وتهدّده بأنّها ستخلعه عند القضاء، فيشعر الزّوج بفقدان كرامته، وربّما يصل به الأمر إلى السّكوت عن أخطاء زوجته، وربّما يلقي لها الحبل على الغارب حتى لا تخلعه، فيراها تكلّم الرّجال في الهاتف وفي وسائط التواصل الاجتماعيّ، ويشعر بالذلّ والهوان في داخله، لكنّه لا يحرّك ساكنا خوفا من الخلع وتبعاته.
نتيجة متوقّعة لقلّة الاهتمام بالدّين
من أهمّ أسباب استشراء الخلع وتضاعف عدد حالاته، أنّ كثيرا من الشّباب المقبلين على الزّواج أصبحوا لا يهتمّون بدين المرأة وخلقها عند الخطبة، وإنّما يهتمّون بالمظهر والوظيفة والرّاتب.. في زمن مضى وقبل أقلّ من 20 سنة كانت المرأة هي من تهتمّ بوظيفة خاطبها وراتبه، لكنّنا في السّنوات الأخيرة فجعنا بشباب لا يطلب الواحد منهم في المرأة إلا أن تكون حسنة المظهر وذات منصب وراتب، وإن وجدها تملك سكنا وسيارة فتلك غاية أمنياته التي لا يهتمّ بعدها بخلق ولا دين.. فإذا تزوّجها ومرّت بضعة أسابيع أو أشهر فوجئ بزوجته تتمرّد وتتنمّر عليه؛ تخرج وقت ما تشاء، وتحدّث من تشاء، وتدخل إلى البيت وقت ما تشاء، لا تستأذنه ولا تستشيره في صغيرة ولا كبيرة، بل ولا تسمح له أن يتدخّل في شؤونها؛ فيجني بذلك سوء اختياره، ولا يجد بدا من ذلك إلا أن يتّجه إلى الطّلاق ويتحمّل تبعاته الباهظة أو يتجرّع مرارة الذلّ والهوان وربّما العبودية.
أسباب كثيرة ونتيجة واحدة
تعدّدت أسباب انفصام عرى الأسر المسلمة في بلدنا، والنّتيجة واحدة، زوجات لا مكان في حياتهنّ لشيء اسمه القوامة ولا لشيء اسمه حسن التبعلّ للزّوج، وأكثرهنّ لا يعجبهنّ أن يسمعن ما يقوله القرآن وما يقوله النبيّ العدنان –عليه الصّلاة والسلام- في فضل طاعة الزّوجة لزوجها في غير معصية الله وفي عقوبة النّشوز عن الزّوج والخروج عن طاعته، وإذا ما سمعن شيئا من هذا أعرضن بوجوههنّ، وكأنهنّ يقلن بلسان الحال: هذا الكلام ولّى زمانه وانتهى!
الصّالحات قانتات حافظات للغيب
أفضل علاج لاستشراء ظاهرتي الطّلاق والخلع في المجتمع الإسلاميّ، هو الاهتمام بالدّين وجعله الأساس لبناء كلّ أسرة مسلمة، وعدم التّهاون في مراعاة أهمّ صفتين ينبغي أن تطلب في زوج وزوجة المستقبل، ألا وهما الخلق والدّين، والمولى –سبحانه- حينما تحدّث عن القوامة، أشار إشارة واضحة إلى صفات المرأة التي تذعن لهذه القوامة وتحفظها، فقال جلّ شأنه: ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّه)).
المرأة المؤمنة التي ترجو الله وتعلم أنّها ستقف بين يديه للحساب، لا تغرّها المظاهر والشّعارات الخدّاعة، وتعلم أنّ طاعة الزّوج من أهمّ أسباب دخول الجنّة.. تقرأ قول الله جلّ وعلا في كتابه الكريم: ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّه))، وقوله سبحانه: ((وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم))، وتسمع حديث النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها دخلت جنة ربها”، وتحفظ حديثه –عليه الصّلاة والسّلام- لتلك المرأة التي جاءته في حاجة فلمّا فرغت من حاجتها قال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: أذات زوج أنت؟ قالت: نعم. قال: كيف أنت له؟ قالت: ما آلوه (أي لا أقصّر في حقه) إلا ما عجزت عنه. قال: “فانظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك” أي هو سبب دخولك الجنّة إن قمت بحقّه، وسبب دخولك النار عن قصّرت في ذلك.
المرأة المسلمة التي تعلم أنّ مظاهر الحياة الدّنيا فانية وأنّها ستقدم على الله، لا تسعى في سخط زوجها، ولا تطلب منه الطّلاق ما لم تدعُ ضرورة إلى ذلك، لأنّها تعلم حديث النبيّ عليه الصّلاة والسّلام: “أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلاقًا فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّة”.. المرأة المؤمنة التي تتذكّر دائما وأبدا أنّها في دار امتحان وتوشك أن ترحل عنها إلى دار الجزاء، تصبر على زوجها وتزيد من إحسانها إليه، وتدعو الله أن يهديه ويصلحه، وتعظه بالتي هي أحسن، وتستعين بوالديه وإخوته في ردّه إلى الصّواب، ولا تلجأ إلى الخلع إلا إذا تعذّرت أسباب الصّلح والإصلاح، لأنّها تعلم حديث النبيّ –عليه الصّلاة والسّلام: “إنّ المختلعات هنّ المنافقات”.
المرأة المسلمة التي ترجو الله والدّار الآخرة، مهما كان مستواها الدّراسيّ ومهما كان منصبها ومالها، فإنّها لا تستعلي بذلك على زوجها، بل تخفض له جناحها وتتواضع له، طلبا لرضا الله أولا وطلبا لصلاح حاله وحال أسرتها ثانيا.. المرأة المسلمة الصّالحة لا تنظر إلى زوجها على أنّه شريك مشاكس، بل شريك مكمّل، جعل الله القوامة بيده تكليفا وتشريفا، ليحفظها ويصونها ويكفيها مكابدة مشاقّ الحياة ومصاعبها.