-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الذكرى 87 للاحتفال بختم تفسير ابن باديس للقرآن الكريم

التهامي مجوري
  • 233
  • 0
الذكرى 87 للاحتفال بختم تفسير ابن باديس للقرآن الكريم

في يوم 12 جوان من كل عام يمر على الجزائر، ذكرى من ذكريات العلم والعلماء، المتمثلة في الاحتفال الذي أحياه الجزائريون احتفاء بختم الشيخ عبد الحميد ابن باديس تفسيره للقرآن الكريم، وذلك في يوم 12 جوان 1938م، وقد كان احتفالا وطنيا عظيما لم تشهد الجزائر مثله في تاريخها، إلا بعد 42 سنة، في احتفال مماثل احتفاء بختم الشيخ إبراهيم بيوض لتفسير القرآن الكريم في 12 ماي 1980. وفي تقديري، لم تشهد الجزائر مثل هذه الذكريات المماثلة في المظهر والمخبر إلا نادرا، وقد حضر الاحتفالين جموع غفيرة من كل ربوع الوطن، مع فارق بين المناسبتين أن الأولى كانت في ظل استعمار كاتم للأنفاس، والثانية بعد استرجاع الجزائر سيادتها على أرضها.

وإذا كان الاحتفاء الثاني الذي كان في الجزائر المستقلة، قد حظي بمباركة رسمية متمثلة في وزير التعليم الأصلي والشؤون الدينية مولود قاسم نايت بلقاسم الذي بلّغ تحيات الرئيس الشاذلي بن جديد ومباركته هذا الجهد المبارك، ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى وغيرهما من إطارات القطاع الديني والتربوي وغيرها من القطاعات الرسمية الشعبية، فإن الاحتفال الأول الذي حرم هذه المباركة الرسمية، قد كان حاضرا في كلمات المتدخلين من العلماء والدعاة والمصلحين؛ بل كان حاضرا في كلمة المحتفى به الشيخ إبراهيم بيوض، التي أشاد فيها بالسابق وفضله عن اللاحق، والكشف عن فضائل ابن باديس ومنهجيته في التعامل بالقرآن، كما نقل عنه أنه اهتم بالقرآن تربية وتوجيها، وعاهد الحاضرين على أن يستمر في على النهج، بل طلب منهم أن يعاهدوه ويعاهدوا الله على التمسك بالقرآن كما تمسك به هو طيلة حياته.

لقد تقاطع المفسران في مرحلة زمنية تقارب العشر سنوات؛ لأن الشيخ بيوض أتم تفسيره خلال نصف قرن، أي أنه شرع في التفسير في سنة 1930، أي قبل إتمام ابن باديس تفسيره بثماني سنوات.

وما يُفرِح ويُثْلج الصدر أن تفسير الشيخ إبراهيم بيوض مدوَّن مكتوب وقد اهتم به حواريوه ولم يضِع منه شيء، وما يدمي القلب في الوقت ذاته أنّ تفسير ابن باديس لم يدوَّن منه إلا المعوذتان اللتان كتبهما الشيخ محمد البشري الإبراهيمي نقلا عن الشيخ ابن باديس، وما دوّنه هو كتابة فيما نشر من مقالات افتتاحيات مجلة الشهاب تحت عنوان: “مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير”. وقد نُشر ذلك في كتاب مستقل بعنوان “تفسير ابن باديس في مجالس التذكير من كلام العليم الخبير”، أشرف على جمعه ونشرهالأستاذان: محمد صالح رمضان، تلميذ ابن باديس والدكتور توفيق محمد شاهين من الأزهر الشريف، وربما استلّاه من مجموع “آثار ابن باديس” التي جمعها ونشرها الدكتور عمار طالبي تحت عنوان “ابن باديس حياته وآثارها” بمقدمة لمالك بن نبي رحمه الله؛ لأن الآثار نُشرت في سنة 1966، أما التفسير فنُشر في سنة 1971.

ومن عجائب الأقدار يقول الشيخ الإبراهيمي: “أذكر أننا كنا في جماعة من الرفاق الأوفياء، تذاكرنا مرّة في إقامة حفلة تكريم لرفيقنا الأستاذ بن باديس تنويهًا ببعض حقه على العلم وشكرًا لأعماله الجليلة وآثاره الحميدة في التعليم بهذا الوطن، واعترافًا بكونه واضع أسس النهضة. وإنصافًا لكونه أسبقنا إلى التعليم وأشدّنا اضطلاعًا به وأكثرنا إنتاجًا وتخريجًا فيه… وذهبنا في تقدير الفوائد التي تُجنى من هذا الاحتفال مذاهب لا غلوّ فيها ولا إسراف. ثم فاتحنا أخانا الأستاذ بهذه الفكرة، فكان الجواب قوله: دعوا هذا حتى تُختم دروس التفسير” [آثام محمد البشير الإبراهيمي]، وكان ذلك قبل سنوات عن هذا الاحتفال، وكأنه تهرّب بطريقة لبقة ليكون القصد تكريما للتفسير وليس له هو نفسه.

وابن باديس لم يكتب تفسيرا كما أسلفنا، وإنما درّس التفسير في الجامع الأخضر لجميع الناس بمستوياتهم المختلفة، للعوام والطلبة والخواص والعلماء… بمنهجية متفردة في تبليغ خطاب الله ومقاصده العليا، التي اعتبرها الشيخ محمد الغزالي غاية في التفاعل مع القرآن العبقرية، عندما سُئل عن ابن باديس فقال “ثلاثة لم أر مثلهم في التاريخ: جمال الدين الأفغاني وحسن البنا وابن باديس، ذلك أنهم يخاطبون الناس على اختلاف مستوياتهم ومراتبهم، العالم والعامي والمناضل والرجل العادي، والجميع يتفاعل مع خطابهم ويعجب به”، وهذه خصلة ليست لكل الناس، إذ من الناس من يطرب إليهم العوام ولا يعجب بهم العلماء، ومنهم من يعجب بهم العلماء ولكن لا يفهمهم العوام. وقد اعتبر الشيخ أحمد حماني رحمه الله ذلك ميزة تفرّد رجال الإصلاح في الجزائر في تعاملهم مع القرآن، خلال القرن العشرين، سواء في تفسير ابن باديس الذي درّس تفسيره في الجامع الأخضر بقسنطينة على عامة الناس ونشر بعضه في الشهاب وأتمه خلال خمس وعشرين سنة، أو في تفسير بيوض الذي درّسه في مدينة القرارة بغرداية خلال نصف قرن، وكلاهما من مدرسة الإصلاح وخيمتها الكبرى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

إن علاقة ابن باديس بمنهجيته في التعامل مع القرآن، تفسيرا وتربية وتوجيها، بدأت مع مرحلة التحصيل في جامع الزيتونة، إذ حكى لأستاذه محمد النخلي متبرِّما مما يلاحظه على المفسرين من مطولات واستطرادات وتخريجات غير موفقة وإسرائيليات، فقال له شيخه محمد الخلي: “اجعل عقلك مصفاة لما تقرأ”، وبالفعل فقد أخذ بهذه النصيحة وطبّقها تطبيقا محكما، فلم يلاحظ على ابن باديس فيما نشر من مختاراته في التفسير، أنه مكرّرٌ لما سبق، ولا مقلد لأسلوب من أساليب غيره من المفسرين، وإنما نهج منهجا يغلب عليه طابع النهج المقاصدي، أو ما يعرف بالتفسير الموضوعي، من غير أن يحشو كلامه بالكثير من الشواهد. والتفسير الموضوعي لم يهتم بطريقة جديدة في التفسير إلا ابتداء من منتصف الستينيات في الأزهر، أما قبل ذلك فلم يعرف في التفسير إلا التفسير بالمأثور أو التفسير الفقهي أو التفسير الكلامي او التفسير البلاغي، وكل حسب الفن الذي شغله في التفسير.

أما ابن باديس فلم ينح هذا المنحى، وإنما سار وفق ما تهدي إليه الآية أو الآيات، آخذا بالاعتبار الأبعاد والغايات المقاصدية والتربوية.

لقد انطلق في التفسير مع العام الذي أسس فيه لعمله الإصلاحي سنة 1913، بعد اتفاق مسبق بينه وبين محمد البشير الإبراهيمي الذي التقاه في المدينة المنورة وقضى معه أشهرا، يتدارسان كيفية النهوض بالشعب الجزائري، واتفقا على النهوض بصياغة النشء بطريقة تبعده عن الخرافة والخضوع للاستعمار كما قال الابراهيمي واصفا تلك المنهجية “تربية النشء على فكرة صحيحة ولو مع علم قليل”…

ابن باديس لم يكتب تفسيرا، وإنما درّس التفسير في الجامع الأخضر لجميع الناس بمستوياتهم المختلفة، للعوام والطلبة والخواص والعلماء… بمنهجية متفردة في تبليغ خطاب الله ومقاصده العليا، التي اعتبرها الشيخ محمد الغزالي غاية في التفاعل مع القرآن العبقرية، عندما سُئل عن ابن باديس فقال “ثلاثة لم أر مثلهم في التاريخ: جمال الدين الأفغاني وحسن البنا وابن باديس، ذلك أنهم يخاطبون الناس على اختلاف مستوياتهم ومراتبهم، العالم والعامي والمناضل والرجل العادي، والجميع يتفاعل مع خطابهم ويعجب به”.

ابن باديس بدأ في تطبيق البرنامج الذي اتفقا عليه، انطلاقا بربط الناس بالقرآن حفظا وتربية وتعليما وتوجيها، بإضافة بعض الضروريات المنهجية العلمية التي تصل الناس بالقرآن من لغة ونحو وبلاغة، ثم كانت علوم الوحي الأخرى -عقيدة وفقه وآيات وأحاديث الأحكام وأصول…- وإلى جانب هذه الحركة التعليمية في الجامع الأخضر، كان يكتب في الصحف الجزائرية يومها مثل النجاح والكتب التونسية… ولم يمض على هذه الحركة إلا 12 سنة حتى أسس أول أول جريدة له يخاطب بها القراء من طلبة الزوايا وبعض الذين تتلمذوا عليه وغيرهم من القراء وهي جريدة “المنتقد” ولم يصدر منها 18 عددا حتى أوقفوها بسبب حد طرحها وقوة انتقادها، فهي “المنتقد” ردا على من يقول “اعتقد ولا تنتقد” وشعارها “الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء”. ثم أصدر جريدة “الشهاب” التي تحولت إلى مجلة أسبوعية، مع تعديل في لغة الخطاب فكانت أقل حدّة، واستمرت إلى أن توفاه الله.

وكانت افتتاحيات الشهاب بركن ثابت “مجالس التذكير”، ففي كل عدد تكون الافتتاحية فتفسير آية من القرآن الكريم في ركن “مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير”، أو شرح حديث في ركن “مجالس التذكير من حديث البشير النذير”، وذلك لربط القراء بمصدرية الفكر الإسلامي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولا يمكن مغادرة هذه الصفحة من دون التذكير بأن هذا الاحتفال قد خصصت له مجلة الشهاب عددا خاصا، وكلف الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بتقديمه والإشراف عليه. ورغم أن الشيخ ابن باديس كان راغبا عن الكلام في الموضوع إذ “أبت همّته العلمية وإخلاصه العمل لله ألا ينشر في “الشهاب” إلا ما هو من حقوق الدين والعلم والعربية دون ما هو من حظوظ النفس وتمجيد الشخص. ولكن إخوانه من رجال العلم والأدب الحريصين على تخليد هذا الاجتماع القرآني المنقطع النظير رغبوا منه أن يتنازل عن حقه من مجلة “الشهاب” هذه المرّة، وأقنعوه بأن كل كلمة قيلت في مدح شخصه والثناء عليه فهي مصروفة إلى أعماله، وإلى مبدإ الذي وقف حياته عليه وإلى النهضة التي كان- بحق- بانيها ومشيّد أركانها وإلى الأمّة التي أنفق عمره وقواه في سبيل نفعها وإحيائها. وبأن تسجيل هذه الصفحة الوضّاءة من صفحات الإصلاح، من الواجبات على “الشهاب” [آثار محمد البشير الإبراهيمي].

أين نحن من هذه الذكرى؟ كما يقول سي عبد السلام بن مهيدي، وما موقعنا من هذه المنهجية العالية وهذا الوضوح الكامل في الرؤية؟وأين نحن جميعا من جمعية العلماء الغالية؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!