الردّ المأمول على المسيئين لمقام الرسول
في البدء نذكّر بأن الإساءة للمصطفى صلوات ربي وسلامه عليه ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة التي ينتصب فيها الرويبضة طرفا مهاجما للإسلام ومتطاولا على مقام المصطفى صلى الله عليه وسلم. فمن اللحظة الأولى التي تنزل عليه الوحي في “غار حراء” بدأ القصف الشركي يستهدف شخصه بكثير من الغلوّ والتطرف وسوء الأدب لعلم المشركين أن تشويه القدوة يسقط رسالته ويزهّد الناس فيها، فإذا سقطت الأسوة انفضوا من حولها. ففتش عتاة قريس في “أرشيف” حياة النبي ونقبوا عن أصله وفصله وأرومته حسبه ونسبه.. فلم يجدوا له مثلبة يعيرونه بها سوى سبع عيوب كان أكثرها لهم مناقب فجعلوها مثالب ورموه بها إفكا وزورا وهم غير موقنين بصحة ما رموه به فقالوا: أبتر. ساحر. شاعر. كاهن. مجنون. يأكل الطعام. يمشي في الأسواق. لكن السحر انقلب عليهم لما انشغلوا بالسباب وغفلوا عما وراءه. فلما كان يوم الفتح – بعد عشرين عاما – اكتشفوا غداحة خطئهم، فمنهم من فر أمام زحف حقيقة ما أنكروا. ومنهم من سارع إلى مسح ما كانوا يرمونه به من نقيصة وقالوا له: أنت كريم وابن اخ كريم..!!
فما الذي تغير بين الأمس واليوم؟ وهل رأيت أطفالا يرمون بالحجارة شجرة لا ثمار فيها؟ وهل يضر الكلام الجارح من وشحه الله بوسام الخلق العظيم؟
خلع الله (جل جلاله) على رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات ما يجعل كل نقيصة في حقه شهادة له بالكمال البشري والجلال النبوي في الدنيا والآخرة. فهو شاهد. ومبشر. ونذير. وداع إلى الله بإذنه. وسراج منير.. ومن عجب المسيئين له قديما أنهم رموه بما كانوا به يفخرون: قالوا شاعر، وهم الذين كانوا يحتفلون بميلاد الشاعر في القبيلة ويجلونه ويوقرونه ويخلعون عليه الحلل ويعلقون مذهّباته على أستار البيت العتيق. وكانوا يعدّونه والفارس صنويْن. وقالوا ساحر وهم الذين كانوا يعتقدون أن الساحر “رجل غيب” يمدهم بأخبار السماء وينبّؤهم بما لا يعلمون (ما ساد فرعون قبلهم إلا بسحرته فلما آمنوا برب موسى وهارون سقطت هيبته من صدور أتباعه). وقالوا كاهن وهم الذين كانوا يقدمون له القرابين ويحرقون على عتبات معبده البخور وينحرون النّوق ويضربون القداح ويأتمنونه على حراسة معابدهم. وقالوا مجنون وهم الذين كانوا لا يلتفتون إلى تصرفات من فقد عقله ولا يرونه يشكل خطرا عليهم في عادة ولا في عبادة. فما الذي أرعبهم من “جنونه”؟ أما المشي في الأسواق وأكل الطعام فعادة لا يعيّر بها بشر، ولكنهم ذموه بها لتكتمل شهادتهم له بأنه كامل الأخلاق والأوصاف والسيرة والقدوة..كما قالها المتنبي.
وإذا أتتك مذمتي من ناقص. * فهي الشهادة لي بأني كامل
ذاك تاريخ الأمس وسيرة الجاهلية الأولى. وقد تولى الوحي الرد على كل حلاف مهين هماز مشّاء بنميم.. وأثبتت الأيام أن أكثر من أساء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عتلا وزنيما يمنع الخير عن نفسه ويحجبه عن قومه. فلما دالت دولة السفهاء وسقطت رايتهم جاءُوه أذلاء يسألونه الرحمة والعفو وطيّ صفحة الماضي. فاقتدى بأخيه يوسف عليه السلام وقال لهم:” لا تثريب عليكم اذهبوا فأنتم الطلقاء”. فخلف من بعدهم خلف ورثوا أخلاقهم ونسوا ما كان لرسول الرحمة من فضل على البشرية كلها، فلولاه لكان العالم اليوم في ضلال مبين. وقد عزّ عليه ما كانت فيه البشرية من ظلام، فدعاها الى النور، فمن أجاب فقد تحرى رشدا. ومن تخلف كان لنار جهنم حطبا.
كيف نواجه هذه الغارة الجديدة على نبينا محمد؟ وهل المقصود بها شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم أم أن وراء الهجمة ما وراءها؟
عندما قصفت أمريكا مدينتي ناغازاكي وهيروشيما بقنبلتين ذريتين قبل نهاية الحرب العالمية الثانية بسنة واحدة، تعجب العلماء من صمت اليابانيين الذين لم يشتموا الرئيس الأمريكي وقتذاك، ولم يسبوا الجيش الأمريكي، ولم تتفجر عواطف شعرائهم بقصائد هجاء النظام الذي دمر قدراتهم القتالية وعفّر أنوف “الساموراي” في رغام الذل والمهانة.. فشد فريق من العلماء رحالهم إلى طوكيو يسألون ساستهم عن سر هذا الصمت المهيب: كيف لم تردوا على من دمركم؟ لماذا اهتم إعلامكم بنعي الداخل ولم يتوجه بالشتائم والسّباب لمن كان سببا في مآسيكم؟ هل أرعبكم تفجير الذرة وتجربتها على شعبكم..؟ وغيرها من تساؤلات. فكان رد اليابانيين صادما لمن توقعوا منهم كل جواب إلا ما سمعته آذانهم. ونظرا للقيمة الحضارية التي تمثلها أجوبتهم على أسئلة المهتمين، ولما نحن فيه اليوم، فإني ألخصها في أربعة فقرات مفيدة وأربط بها ما نحن بصدد معالجته حضاريا. قالوا: نحن منشغلون ببحث أربعة أسئلة ستكون أجوبتها مشروعا علميا وبرنامجا عمليا لانطلاقة جديدة لا يمكن معها لأي دولة أن تفكر مستقبلا في الاعتداء علينا.
١- لماذا ضربتنا الولايات المتحدة الأمريكية بالذرة ولم يتعاطف معنا أحد؟
٢- ماذا فعلنا حتى ضربنا بأفظع سلاح؟
٣- كيف تقدم غيرنا وتخلفنا، فصنع سلاحا دمّرنا به وغفلنا عن صناعة سلاح يصدهم ويرد عليهم بالمثل؟
٤- ما هي الدروس المستخلصة مما حدث لنا؟ وما الذي يجب علينا فعله لنمنع تكرار مثل هكذا عدوان.
ولخصوا ما طرحوه من أسئلة بالقول: إن انشغالنا ببحث هذه الإشكاليات استغرق كل وقتنا، فلم يبقَ لنا متسع من الوقت كي نشتم من اعتدى علينا..!!
قلت: سبحان من ألهم اليابانيين حكمة الرد الصحيح، فصاروا بعد ربع قرن قوة اقتصادية وقدوة قافزة في أجواء السماء. بينما تخلفنا نحن عن هذا الركب سبعين عاما، ومازلنا نلدغ من نفس جحر خصومنا آلاف المرات، وليس لنا من الأسلحة سوى قول البدوي الذي لاحق من أغاروا على قبيلته وساقوا مواشيها غنائم ونسائها سبايا، ليسترد شرفه السليب، فعاد وليس معه أنعام ولا نساء..!! فسألوه: ما وراءك يا أخا العرب؟ قال: “أشبعتهم سبّا وفازوا بالإبل”. فمشت بها الركبان مثلا على من ليس له سلاح سوى السبّ والشتيمة والهجاء..أما جوهر ما يجب فعله فغفل عنه ظنا أنه إذا أشبع عدوّه سبا فلا حاجة له بما تم سلبه منه..!!
المنهج المأمول للرد على المسيئين للرسول صلى الله عليه وسلم رسم معالمه الكبرى فيلسوف الحضارة الجزائري مالك بن نبي رحمه الله، في مقارنة عميقة بين ردود فعل العالم الإسلامي على الاستعمار ورد فعل اليبانيين على ما حدث لهم، وخلاصة ما بسطه هو: أنه بعد الحرب العالمية الثانية وقف اليابان من المستعمر “موقف التلميذ” من الأستاذ. ووقفنا نحن ( في العالم الإسلامي كله) من عدونا “موقف الزبون”. بعد ربع قرن ها هي النتائج ماثلة أمام أبصارنا:
– التلميذ تعلم واستوعب دروس الحضارة فأصبح أستاذا.
– والزبون مازال تابعا لمن يوفر له الدواء والغذاء والكساء..
من نآى عن مهاترات الحاضر واشتغل بالمستقبل وتواضع لمن سبقه فوضع نفسه على طريق العلم والبحث والتكنواوجيا. وأخذ بأسباب التقدم، صار بعد التتلمذ أستاذا. أما من كان ديدنه ردود الأفعال، فيضرب هذا ويشتم هذا ويسفك دم هذا ويأكل مال هذا.. فيعيش في دنياه عالة على البشرية ويبعث يوم القيامة مفلسا. ومن ينام على الأخذ بالسنن فإذا أسيء له أو تُطوول على رسوله ومقدساته انتفض شهرا وعاد إلى نومه دهرا، كان كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.
والسؤال الأخير: هل نسكت عن الإساءة لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم -كما سكت اليابانيون – وتستغرق وقتنا كله في البحث العلمي حتى نعدّ لخصومنا المستطاع من القوة ومن رباط الخيل نرهب به صناع الأزمات باسم ” الإسلاموفبيا” كلما أفلسوا أثاروا الزوابع وأعادوا نشر الصور المسيئة ليبتزوا بها مشاعر المسلمين ويشعروا العالم أنهم قادة الحرب ضد التطرف الإسلامي قصد تجفيف المنابع.
ربنا (جل جلاله) لم يكلفنا بالنّفرة جميعا، بل أمرنا بأن تنفر منا طائفة، فإذا دخلت المعمعان كانت الأمة كلها من ورائها ثُباتا أو جميعا. بيقين ثابت أن فرنسا ومن وراءها لا يستهدفون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعلمهم أنه لم يكن متطرفا حتى يساء إليه. وهم يعلمون أن الهجوم على الإسلام لا يحدّ من انتشاره. فهو ليس “دينا محمديا” وإنما هو دين الله ونبيّه عبده ورسوله، ودين الله نور لم “يشخّص” في بشر كما فعلت النصارى بدينهم مع رسوله عيسى عليه السلام . ومن خصائص النور أنه يزداد بالضغط كثافة وبالترك انتشارا. فلا خوف على الإسلام ولا خوف منه، لكن الحكمة تفرض على أمة الإسلام الرد الظرفي بالمتاح المباح ( ومنه المقاطعة للسلع الفرنسية، فتلك نقطة ضعفها الكبرى. واستمرارها شهرا واحدا كفيل بالإطاحة بماكرون). فحب النبيّ صلى الله عليه وسلم أغلى علينا من فرنسا وسلعها وعلاقاتها التي لم تحترمها. فأقل الواجب غصبة على من تطاول على ديننا ورسولنا، ولكن لا ينبغي لهذه الغضبة العاطفية الواجبة إلهاءنا عن الاجتهاد في تطوير قدرات أمتنا على نحو يجعلها- بعد ربع قرن – أمة عزيزة مهابة مرهوبة الجانب، فلا تسوّل “لأحفاد ماكرون” أنفسُهم أمرا يسيئون به إلى ديننا وقدوتنا إذا علموا أن كلمة واحدة مسيئة لمقدساتنا تكلفهم كثيرا وكثيرا جدا، اليوم وغدا. ولبعلمنّ نبأه بعد حين. وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.