السياحة في الجزائر.. بين الربح الأخلاقي والاستغلال

بحلول موسم الاصطياف الجديد، قدّمت مصالح وزارتي الداخلية والسياحة كل التطمينات للمواطنين، بقضاء إجازات سنوية وعطل عائلية مريحة على شواطئ بلادهم الجميلة الخلاّبة على امتداد 1400 كلم.
ومرّة أخرى، سمعنا لغة حازمة من المسؤولين بخصوص راحة المصطافين وضوابط استغلال المساحات الشاطئية من الخواص، ضمن عقود امتياز مدروسة ودقيقة، تأخذ في الحسبان الجانب الربحي للخزينة العمومية والمتعاملين، لكن من دون المساس بحقوق المواطنين والسياح.
الملاحظ أنّ الإقبال السياحي الداخلي الصيفي يرتفع تدريجيّا خلال السنوات الأخيرة، مقابل تراجع الوجهات الخارجية لاعتبارات كثيرة ليس هنا مقام التفصيل فيها.
هذا الزخم السياحي المتصاعد سنويّا بولاياتنا البحرية يفتح معه مجدّدا ملف النقاش المجتمعي والإعلامي حول السياحة الداخلية في الجزائر بواقعها ونقائصها وآفاقها الواعدة كذلك، في بلد يصنَّف فعليّا من أجمل البلدان عبر العالم، إذ يملك كل مقومات الجاذبية الطبيعية، بجغرافيا شاسعة وتضاريس جد متنوعة ومناخ متعدّد، وحتى العادات والتقاليد الشعبية والثقافية ثريّة من منطقة إلى أخرى، ناهيك عن أنه يزخر بموروث حضاري، ديني وروحي عريق عبر جهاته الأربع.
لا شكّ أنّ الاستغلال الأمثل لتلك الإمكانات الأوّلية يحتاج أساسا إلى مرافق استقبال وإيواء بحجم التدفُّق السياحي ونوعيته ورغباته، بين السياح المحليين والأجانب، والطبقات الميسورة والشعبية، وكذلك من حيث طبيعة الاستهداف السياحي، بين الاستكشاف والاصطياف والاستجمام والراحة والصحة والزيارات الدينية وغيرها.
وبهذا الصدد، لا ينكر أحد أنّ حجم الهياكل السياحية، في صورة فنادق ومركّبات، قد تضاعف خلال السنوات الأخيرة، لكنه يبقى دون التغطية اللازمة وفوق طاقة الأغلبية من ناحية تكلفة الخدمات، مقارنة بالقدرة الشرائية للمواطنين وأيضا بدول أخرى، ما يوجب على السلطات المختصة توفير بدائل مناسبة وموازية تلبّي حاجة جميع الشرائح الاجتماعيّة، ولعلّ تقنين عمليات كراء المساكن الخاصة جزء أساسي من الحل، حتّى وإن كانت التجربة في بداياتها قبل النضج وضبط الممارسة التقليدية بما يضمن حقوق الجميع.
لكن بالمقابل، ما ينقصنا ليس قليلا، للاستفادة أكثر من فرص السياحة الاستثنائية في بلادنا، لأنّ صورتها الحاليّة لا تعكس المقوّمات المتاحة ولا تخدم ازدهارها مستقبلا إلا بالتدارك الجماعي، عن طريق جهود المجتمع والسلطات التنفيذية المعنية في كافة المستويات.
وإذا كانت مسؤوليات الجهات الوصية بمختلف إداراتها وأجهزتها معلومة، من ناحية وضع القوانين والبرامج ثم الرقابة على تنفيذها والتزامها، فإنّ واجبات المجتمع رئيسية في النهوض بالسياحة، وهذه معركة أخرى أخطر، لأنها تتعلق بالتنشئة والتربية والثقافة السلوكيّة والذهنية الجمعيّة.
وقبل التفصيل في مشكلة الثقافة الاجتماعية تجاه شروط السياحة، لا يفوتنا التنبيه إلى تقصير الأجهزة المحليّة أحيانا في تنفيذ التعهدات الحكوميّة المتجدّدة مع كل بداية صيف، في حين تتكّرر عبر المدن ممارسات السطو على الشواطئ، خاصة المركزية منها، ومنح تراخيص استغلال من دون الوقوف بصرامة على التزام بنود دفاتر الأعباء، بما يضمن حقوق جميع المصطافين، حتى أن الدخول إليها يكاد يكون بمقابل إجباري مقنَّع، عبر كراء كراس للظفر بموطئ قدم قبالة البحر، في حين يفترض عرض الخدمة على المواطن وليس فرضها باحتلال واجهة الشاطئ!
هذه القضية صارت بحاجة إلى فصل حازم ونهائي من الحكومة، بتنظيم صريح غير قابل للاجتهاد، عوض ترك المواطن تتقاذفه الجماعات المحلية ومسؤولي السياحة، لتجد الأجهزة الأمنية نفسها مقيّدة بتراخيص إدارية محليّة مخالفة للقانون وإرادة السلطات العليا.
في كل موسم تتعهد الجهات الوصية بفتح الشواطئ أمام المواطنين، وأنّ مساحات الاستغلال الخاص تبقى جد محدودة، لكن عندما ننزل إلى الميدان، نجدها مغلقة بقوة الأمر الواقع، ولا مفرّ للسائح من دفع آلاف الدينارات للاستمتاع بزرقة البحر، في بورصة أسعار لا تخضع إلا للعرض والطلب، فمتى ينتهي هذا الكابوس؟
أما إذا عدنا إلى سلوكيات الأفراد وثقافة المجتمع، فإنها بحاجة إلى توعية دائمة ودورية بأخلاقيات السياحة، لأنّ الكثير منهم لا يراعي -باسم الحريات الفردية- اعتبارات الحياة المشتركة مع الآخرين، إلى درجة حرمان فئة واسعة من التمتّع بحقها الطبيعي، كما لا تعني لدى آخرين الملكية العامة شيئا، إذ يحرصون على سلامتها ونظافتها للصالح العام، حتى تحوّلت بعض شواطئنا وغاباتنا إلى مفرغات عشوائية تعاف النزول إليها.
من جهة أخرى، لا يتوانى تجار وأصحاب مطاعم ومحلات خدمات مختلفة عن الاستغلال البشع للضيوف، حتى أن الزائر يصدم بتفاوت الأسعار الرهيب في الكثير من المنتجات بين منطقة وأخرى، ناهيك عن المعاملات الفظة والغش والتحايل وسوء الخدمة، ما يدفع، في النهاية، بجزائريين إلى تفضيل السياحة خارج الوطن رفضا لتصرفات غير لائقة أو العزوف عن قضاء العطلة بعيدا عن ديارهم.
إن هذا الواقع المسيء لسمعة القطاع ولأخلاقيات المجتمع الجزائري يقتضي تظافر الجهود الجماعية، لأجل عقلنة الخدمات السياحية وإخضاعها للقوانين والرقابة التجارية الحازمة، مع تكريس ثقافة الربح الأخلاقي عوض التجارة الاستغلاليّة باستنزاف جيوب المواطنين موسميّا.