السياسة بين إرادة فرعون وإرادة موسى

تمثل القوّة عنصرا حياديا أعمى في السياسة، أي عنصرا لا يعرف الخير أو الشر، بل هو معطى حيادي موجود في الطبيعة بشكل متفاوت وبأشكال متعددة عند الكائنات الحية.
لذلك فعنصر القوة يتداخل بعمق في صنع السياسات، لأن وجود القوة يجعلها كفيلة بأن تمارس تأثيرها حتى ولو كانت كامنة غير مفعَّلة، فوجودها لوحده يؤثر في السياسة، أي بلغة المنطق: القوة وهي في طور القوة لا تقلّ وزنا عن القوة وهي في طور الفعل، فسواء كانت كامنة أو مفعَّلة فإن القوة هي القوة.
ومن أمثلة التاريخ أن سليمان عليه السلام حينما خاطب بلقيس كان قد خاطبها وهو يلوِّح بالقوة بشكل صريح.. فمن المنطقي جدا أن يكون كل فاعل في الطبيعة يمتلك القوة ممارسا لهذه القوة لفرض واقع معين. وهنا بالذات تكمن المشكلة الوجودية: ما طبيعة الإرادة الحاملة للقوة: خير أم شر؟
الإرادات هي الوحيدة التي يجب أن تكون محط التركيز والاهتمام والدراسة، لأنها هي الفاعل الذاتي المريد، فإذا كانت الإرادة خيرا فستكون القوة في الخير، وإن كانت الإرادة شرا فستكون القوة في الشر، أي أن القوة تابع والإرادة متبوع، فالعلاقة بينهما إذن هي علاقة منهجية بين متغيرين: المتغير المستقل وهو الإرادة والمتغير التابع وهو القوة.
لو كان الأمر متعلقا بميزان القوة فحسب لكان جديرا حينها التساؤل: لماذا سيخشى الضعيف من القوي إذا كان الأخير ذا إرادة خيِّرة أساسا؟ ألن تكون حينها قوة القوي ضمانا للضعيف؟ ومادام الأمر ليس بهذا الشكل في الواقع فذلك يعني بأن الأزمة ليست أزمة ميزان في القوى بل أزمة إرادات تقف وراء ذلك الميزان ولا تُقيمه بالعدل، وحينها نكون أمام الموضوع الحقيقي: الإرادة.
ترى الواقعية بأن الأصل في الإنسان هو إرادة الشر، لذلك فمادامت طبيعته هي هذه، فلا ضمان لردع الخصم إلا بامتلاك قوة تفوق قوته حتى تُكبح إرادته.
بينما ترى الليبرالية بأن الأصل في الإنسان هو إرادة الخير، ولكن البيئة الفوضوية هي التي تفرض عليه سلوكا عدوانيّا، مما يعني أنه بدلا من التركيز على التسابق نحو القوة والتسبب في زيادة الفوضوية، فإن الأولى هو تحسين البيئة الفوضوية حتى يتحسن السلوك الدولي.
من خلال إدراك القانون الذي يحكم بين القوة والإرادة ستَّتضح الصورة الشاملة للتاريخ وللعلاقات الدولية باعتبارهما: صراع إرادات.
نعم.. إنَّ الأمم المتصادمة، والطبقات المتصارعة، قد وجدت نفسها في واقع هو من صنع إرادات أخرى تُخالف إرادتها فكان هو ذلك السبب الجوهري في تحريكها. مثلا فرض فرعون إرادته على قوم موسى عليه السلام فقام الأخير بطرح حلين لا ثالث لهما:
إما أن يصحِّح الفرعون إرادته التي كانت تتمثل في الطغيان والاستعباد، أو يترك القوم يخرجون بمحض إرادتهم إلى تحرُّرهم الخاص.
وهنا تتمثل أمامنا إرادتان ظهرتا في التاريخ:
الأولى هي إرادة فرعونية تمتلك القوة ولكن لفرض الاستعباد.. والثانية هي إرادة موسوية تمتلك القوة ولكن لقيادة التحرُّر.
كلاهما يمتلك القوة داخل شعبهما وسلطة تأثيرية عالية.. إلا أن الامتحان لم يكن امتحان قوة بل امتحان إرادة.. وهذا ما سطره التاريخ لاحقا بعد المرور من البحر، إذ أن الإرادة الموسوية لم تتحول إلى طغيان ضد قومها رغم امتلاكها للقوة.
يتيح لنا هذا المنظار أن نقرأ العلاقات السياسية في عصرنا بشكل أكثر وضوحا، أي أن نعيد التفكير في موطن الخلل تحديدا: هل هو في اختلال موازين القوى بين الأمم أم في اختلال إراداتها؟
لو كان الأمر متعلقا بميزان القوة فحسب لكان جديرا حينها التساؤل: لماذا سيخشى الضعيف من القوي إذا كان الأخير ذا إرادة خيِّرة أساسا؟ ألن تكون حينها قوة القوي ضمانا للضعيف؟ ومادام الأمر ليس بهذا الشكل في الواقع فذلك يعني بأن الأزمة ليست أزمة ميزان في القوى بل أزمة إرادات تقف وراء ذلك الميزان ولا تُقيمه بالعدل، وحينها نكون أمام الموضوع الحقيقي: الإرادة.
إن الخير والشر رغم أنهما مفهومان متعاكسان، إلا أن الأصل الوجودي هو الخير بينما الشر ليس سوى غياب للخير وليس وجودا أصيلا. مما يعني أن حتمية التاريخ تكمن في مدى امتلاك الإرادات الخيّرة في العالم -أو على الأقل التي تعتبر نفسها خيرة لأنها لا تنوي العدوان- لأكبر قدر من القوة لعدم ترك الخير يتراجع غائبا مما سيخلق الشر تلقائيا، فإن الشر بذاته ليس موجودا وإنما غياب الخير نفسه هو الشر.
من أجل ذلك، فإن القوة كمعطى حيادي لا يعرف الخير ولا الشر ولا يمكن الحكم عليها بمثل هذه الأحكام الأخلاقية، بل يجب أن تدرس حسب الإرادة التي وقف وراءها وليس حسب خصائصها الذاتية.. والخطاب الشائع هو الخطاب الذي يركز على الظاهر فقط أي ينظر نحو القوة ويتساءل عن ميزاتها وكم يمتلك منها وكم ينقصه منها وغير ذلك من الأسئلة التي تحوم حولها فحسب من دون أن يتساءل عن طبيعة الإرادة التي تقف خلفها إن كانت إرادة خير أو شر.
العبرة إذن ليست بميزان التسلح أو بسباق القوة، بل بوضع ذلك التسلح والقوة في يد أمينة لها إرادة الخير، أي إرادة تسعى للقوة حتى تردع الإرادات الأخرى عن الظلم لا أكثر. وبذلك سيكون نظام العالم في المستقبل مضطرا إلى الحوار حول الإرادات السياسية أكثر من اضطراره إلى الاضطراب بسبب الصفقات العسكرية.
وحينها سيدرك النظام الدولي أن مسألة امتلاكه للقوة هي تحصيل حاصل وفعل بديهي، ولكن امتحانه الحقيقي هو: هل ستكون إرادته فرعونية أم موسوية؟