السِّنوار والخليفة عمر

قالوا إن حركة حماس لا تكترث بـ2.3 مليون فلسطيني بقطاع غزة وتركتهم للجوع المزمن، واستولت على أفضل المساعدات الإنسانية الدولية وعلى أجود المؤن وأفخر الأطعمة، وحوّلتها إلى قادتها ومقاتليها وادّخرتها في الأنفاق، واتّخذوا من هذه الكذبة الكبيرة ذريعة واهية لتخفيض حجم المساعدات إمعانا في تجويع الفلسطينيين وإجبارهم على ترك القطاع إلى سيناء المصرية، والإصرار على مواصلة الحرب لإسقاط حكم حماس الذي يتحكّم في توزيع المساعدات.. لكنّ ها هي الحقيقة تتكشّف، وعلى لسان صحيفة “واينت” العبرية التي أكّدت في تقرير لها أنّ رئيس الحركة يحيى السِّنوار، لم يأكل شيئا قبل استشهاده بثلاثة أيام كاملة بسبب النقص الحادّ في الغذاء بغزة، وهو ما أكّده تشريح جثمانه في أحد مشافي الاحتلال!
عندما ارتقى السِّنوار شهيدا، لم يجد الاحتلالُ معه سوى سلاحه وسبحة وكتيب أذكار وقرص حلوى، ولا ريب أنّ هذا البطل العظيم كان يتقوّى بهذه الحلوى الصغيرة التي توفِّر له قدرا ضئيلا من السّكّريات التي تخفّف عنه ألم الجوع المتواصل وتمدّه ببعض الطاقة على التنقّل لتفقُّد المقاومين وشدّ أزرهم وتشجيعهم على مواصلة الثبات والصمود في هذه الحرب الجهنّمية، كما أمدّته في معركته الأخيرة ببعض الطاقة لمقارعة جنود الاحتلال ببسالة نادرة، والحمدُ لله أنّ العدوّ لم يعرف هويته وإلا كان قد آثر أسره على قتله، ليذيقه عذابا جهنّميا في سجونه جزاء هندسة هجوم 7 أكتوبر 2023 الذي زلزل أركان الاحتلال، ثم قيادة المقاومة طيلة سنة كاملة من الحرب التي ألحقت به خسائر بشرية ومادّية فادحة.
هو إذن دليلٌ آخر على أنّ المقاومة في غزّة لا تترفّع عن حاضنتها الشعبية، ولا تعاملها بفوقيةٍ واستعلاء، هناك.. لا فرق بين السِّنوار ومقاتليه وأيّ مواطن فلسطيني بسيط، الجميعُ معرّضٌ للجوع والبرد والتشرّد والأمراض والقتل تحت القصف وغيره، في غزّة يجوع حاكمُها الفعلي يحيى السِّنوار ومقاتلوه كما يجوع سكانُها جميعا تحت تأثير الحصار الصُّهيوني الجهنّمي الذي يحدث بتواطؤ غربي فاضح تهاوت معه القوانين الدولية الإنسانية وأدبيات حقوق الإنسان العالمية إلى غير رجعة؛ إذ لا يحقّ لأحدٍ بعد اليوم أن يتشدّق بها، أو يتحدّث عن دوسها في أيّ مكان في العالم، والحال أنّ الغرب نفسه الذي وضعها لم يتورّع عن دوسها بنفسه.
في 17 أكتوبر الماضي، كانت صورُ اللحظات الأخيرة من حياة السِّنوار مشرقة مشرِّفة مُلهمة للمقاومة ولسكان غزة والفلسطينيين جميعا، وهم يرون كيف كان هذا القائد العظيم يدافع عنهم بسلاحه كأيّ مقاوم بسيط، أمّا اليوم وقد كشفت صحيفة “واينت” الصهيونية أنّ السِّنوار استُشهد وهو جائع لم يتذوّق الحدّ الأدنى من الأكل ثلاثة أيام كاملة، باستثناء أقراص هزيلة من الحلوى، فقد اكتمل مشهدُ عظمة هذا القائد الفذّ الذي عاش حياته كلّها مجاهدا في سبيل الأقصى وفلسطين، زاهدا في ملذّات الدُّنيا وزخرفها، إلى أن ارتقى شهيدا وهو جائع لم يتذوّق طعاما منذ 72 ساعة وربّما أكثر، مع أنّه كان بإمكانه -وهو حاكمُ غزّة- أن يأمر بتحويل ما لذّ وطاب من أغذية تأتي على شكل مساعدات إنسانية دولية، إلى مخبئه الخاصّ، وينعم بما لذّ وطاب منها، لكنّه أبى إلا أن يكون عادلا ويساوي نفسه مع أيّ مواطن بسيط في غزة، ويجوع كما يجوع الآخرون ولا يشبع حتى يشبعوا جميعا، أليست هذه أخلاق كبار الصحابة؟ ألا تقترب صورة السّنوار هنا من صورة الخليفة عمر رضي الله عنه وهو يربط بطنه بحجر في عام الرّمادة لتخفيف شعوره بالجوع وأبى أن يُشبع بطنه والمسلمون جائعون؟! مع فارق بسيط وهو أنّ عام الرمادة استطال في غزة ولم ينته بعد.
شتّان بين من يعيش حياته ناصرًا قناعاتِه ومبادئه ومقدّساته، باذلًا فيها جهده وماله ودمه لا يبخل عنها بشيء، مضحّيا بكلّ ما يملك ويستطيع تقديمه، إلى أن يرتقي شهيدا، وبين من يعيش حياته خائفا متخاذلا يخشى الموت ولا يقوم بواجبه تجاه إخوانه في غزة وفلسطين، أو خائنا عميلا متصهينًا باع آخرته بدنيا غيره، واصطفّ إلى جانب العدوّ، يناصره ويتواطأ معه ضدّ “إخوانه”.. في النهاية يموت الجميعُ حتما، لكنّ هناك فرقا صارخا بين من يضحّي بحياته ويرتقي شهيدا شامخ الرأس ولو كان جائعا، ومن يعيش ويأكل كما تأكل الأنعام تكاد بطنه تنفجر من الانتفاخ، خائنا لأوطان المسلمين، عميلا لأعداء الدين، ويموت في النهاية ذليلا حقيرا. ولكلٍّ أن يختار مسار حياته ونهايته كما يشاء. وفي النهاية لن يفلت أحدٌ من حساب ربّ العالمين.