-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

“الشروق”: عنوان وُلد كبيرا وصمد في وجه الأعاصير

أبو جرة سلطاني
  • 579
  • 0
“الشروق”: عنوان وُلد كبيرا وصمد في وجه الأعاصير
الشروق أونلاين

عندما ظهرت “الشروق” (العربي)، سنة 90، في زحمة التحولات المتسارعة، التي عرفتها السنوات العشر الأخيرة من نهاية القرن الماضي، في سياق التعددية الإعلامية، التي كرسها دستور 23 فبراير 89، ظنها كثير من الملاحظين مغامرة صحفية غير محسوبة العواقب، لاعتقادهم أن مقروئية الحرف العربي كانت متدنية أمام علو نبرة الخطاب السياسي وتدفق سيل من العناوين اليومية والأسبوعية لكل حزب وعشرات النشريات الداخلية. ولا أحد سيهتم بما يضيفه عنوان جديد في ساحة طغى عليها الخطاب السياسي الذي كانت تتجاذبه ثلاثة تيارات تقليدية مهيمنة على الساحة أمام تراجع شعبي لافت للحزْب الذي حُكمت الجزائر باسمه أزيد من ربع قرن.

كيف كان ميلاد هذا العنوان الجديد كبيرا منذ أعداده الأولى؟ وما هي الروافد التي غذت قوته حتى حطم رقما قياسيا في كمية السحب اليومي؟ وما هي العوامل التي ضمنت بقاءه شامخا رغم الهزات العنيفة التي تعرض لها في أكثر من منعطف بين التأسيس وإعادة البعث والتحول اللافت والسريع من عنوان ورقي واحد إلى مؤسسة رائدة صارت لسان حال قطاع واسع من أبناء الجزائر في فترة كانت فيها الكلمة أخطر من الرصاصة؟

مثلت يومية “الشروق” لسان حال الوطنيين وحماة الحرف العربي وأبناء الصحوة عموما لأربعة عوامل كرسها خطها الافتتاحي وعمقتها المادة الإعلامية اليومية التي كانت وجبة “فطور الصباح” لكل مهتم بالشأن السياسي والثقافي والمجتمعي وحتى الديني والدعوي داخل الجزائر وخارجها. أولها: اهتمامها المتزايد بالمشترك الأوسع بين جميع الجزائريين مما لا خلاف حوله بين يمين ويسار ووسط. وبين مسمى وطني وإسلامي وديمقراطي، على نحو جعلها مرجعا لكثير من المهتمين بالشأن الوطني العام، وكل ما له صلة بالوطن وقضاياه الكبرى. وثانيها: تتبعها الدقيق لهموم المواطن اليومية، ورصد شؤونه الصغيرة التي لا تلتفت إليها كثير من العناوين المرموقة ذات الصيت الواسع والانتشار الرسمي في الإدارة. فالهموم الصغيرة التي كانت تهتم يومية “الشروق” بنقلها إلى القارئ كانت تمثل لسكان المدن الداخلية والجزائر العميقة نافذة يطل منها المواطن على الإدارة ويخاطب من خلالها المسئُول عن قضاياه. وثالثها: التعبير بصوت مرتفع عن الخط الوطني الإسلامي الذي يمثل “الأغلبية الهادئة” من أبناء الجزائر وبناتها، وينبذ التطرف والعنف واحتكار الوطنية والإسلام ويناهض مشاريع التغريب والدفع باتجاه “الفرْنسة” أو العلمنة أو التمكين للأقليات النافذة في الإدارة والمال والإعلام والفن.. وتهميش الأغلبية الرافضة لمشاريع المسْخ والانقلاب على الثوابث والمبادئ وعلى عناصر الهوية.

هو خط الحوار والمسار الثوابتي الذي يصب في فكر الوسطية والاعتدال ويناهض كل غلو في الدين والوطنية والعلمانية.. وهو ما لخصه شعارها “رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب”، لمنع الإقصاء والاحتكار والوصاية والتحدث باسم الشعب.. ورابعها: اهتمامها بالقضايا العادلة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ودعمها الإعلامي الصريح والواضح للمقاومة وإشادتها بالأحرار في الوطن وفي العالم، وتكريمها لكل من أدى واجبا مستحقا من أجل الحرية والوطن وكرامة الإنسان وخدمة العلم والمنافحة عن القيم الإنسانية العليا.

عرفت “الشروق” بعض الانكسارات في مسيرتها خلال ثلاثين عاما، لاسيما بين سنوات 99/2004، لكنها كانت على موعد مع مجدد نفسها بطموح واسع نقلها إلى العالمية، كان ذلك على يدي المرحوم علي فضيل الذي التقط خيط مسيرتها بجرأة قل نظيرها في العمل الصحفي خاصة والنشاط الإعلامي بشكل عام، صاحب فكرة المجمع والإنتاج الخاص الذي كان يطمح أن يناطح به الكبار!! وقد عرفته عن قرب فلمست فيه ابتسامة دائمة وحماسة هادئة وقدرة عجيبة على تلقي الضربات من الصديق ومن الخصم وامتصاص صدمتها ببسْمة محيرة تجعل خصْمه يعتقد أن وراءه قوة ضاربة أو سلطة قاهرة أو بدائل جاهزة أو رصيد من مال لا ينفد.. والحقيقة أنه لم يكن يملك سوى ثقته في نفسه وإصراره على الوصول إلى ما كان يدور في عقله، وسلاحه الأمضى هو إيمانه بالخط الذي اختطه لنفسه واعتقاده أن المبادئ تنتصر على المصالح مهما كانت ضراوة المعركة وكثافة الذخيرة المستخدمة، وأن إرادة الشعب أقوى من تهديدات الذين كانوا يلوحون بقبضة الغلق وتجفيف منابع الإشهار..!! وقد سمعت من حكاياته حول هذا الكثير.

حوصرت يوميته أكثر من مرة، وضُيق على المجمع الذي كان يديره وصودرت بعض مشاريعه وأوقف بعضها في منتصف الطريق، وأغلقت حنفيات القوم إمعانا في تجفيف منابع الزرع وسيق للمساءلة والسجن.. ولكنه صمد واحتسب وراهن على تضحيات الطاقم الشاب العامل معه، وربح الرهان، ولولا أن الموت عاجله مع بداية العد التنازلي لنهاية “دعاة الخامسة” لكان لمجمع “الشروق” شأن آخر.

يومية “الشروق” كانت “لسان حال” التياريْن الوطني والإسلامي حرفًا وخطا وانتماء ومقاصدَ ومضامين خطاب. وأذكر أنه حينما كنت رئيسا لحركة مجتمع السلم خلفا لمؤسسها الشيخ نحناح رحمه الله بين سنوات 2003/2013، رصدنا أزيد من 90% من المنتمين إلى هذه الحركة يفتتحون يومهم بقراءة يومية “الشروق”، وفي بعض القرى والبلديات كانت تنفد من الأكشاك فور وصولها. وكانت هذه حال كثير من المناضلين في الأحزاب الإسلامية والوطنية، وهو ما يفسر ارتفاع أعداد سحبها- في بعض سنواتها الذهبية- لتسجل رقما قياسيا بين نظيراتها في العالم العربي (بلغ مليوني نسخة) ثم تراجع ليستقر زمنا معتبرا قريبا من مليون نسخة قبل أن يداهم الفضاء الأزرق الصحافة المكتوبة فتركع أمام سرْعة المعلوم واختزالها في سطر وسبقها الجريدة اليومية بالزمن الحقيقي في مسمى “خبر عاجل” بنقل ما “يحدث الآن”. وصارت الصحافة الورقية جزءًا من حضارة الأمس إلا من ظل وفيا لزمن القصاصات والأرشيف المكتوب من “جيل الطابلويد” والخط الافتتاحي الملتزم والكلمات المتقاطعة والأخطاء السبعة..

في زمن الأحادية كنت صديقا وفيا ليومية تصدر بالشرق الجزائري بين سنوات 69 إلى 92، فلما غيرت خطها تلقاء فضاءات قرْمزية وجهت وجهتي شطر عنوانيْن أحدهما يومية “الشروق” (أضفت لهما سنة 2004 ثلاثة عناوين أخرى) مثلت زادي اليومي الذي أعتز بأنني لم أبدد وقتي في اقتطاع جزء من صبيحة كل يوم لأطالع ما يروق لي مما تنشره هذه العناوين اليومية. في ذكراها الثلاثين يُحفظ ليومية “الشروق” ثلاثة أفضال على جيلي الذي كانت جرائد الصباح لا تبرح موائد إفطارهم، ولا يخرج أحد من بيته إلى عمله إلا وقد تصفح أكثر من عنوان. ومهما يكن من أمر يُحفظ لـ”الشروق” شرف المنافحة عن الخط العربي، وشرف التعبير عن هموم المواطن. وشرف الدفاع عن القضايا العادلة في زمن الهرولة والتطبيع.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!